لا ثقافة حقيقية بلا مجتمعات مستقلة
كان أسوأ ما أصاب الثقافة (ويشمل ذلك أيضاً الشأن الديني) حين عجزت المجتمعات عن إنتاجها وتطويرها وحمايتها، وتم إلحاقها، كما المجتمعات ذاتها، بالسلطة. فقد تحول الإنفاق الثقافي والديني الذي تبذله السلطة السياسية والشركات التجارية والمعونات والمنح الدولية، إلى عمل ضد الذات وضد الثقافة والدين أيضاً. فليس من الحكمة أن تكون المجتمعات ضعيفة ومهمشة، وفي الوقت ذاته يحصل إغداق مالي على الثقافة والعمل التطوعي والاجتماعي والديني، مستقلاً عن تمكين المجتمعات ذاتها لتكون مستقلة وقادرة على إدارة الشأن الثقافي والديني والتوازن مع السلطة والسوق والتأثير فيهما والمشاركة معهما، لأن المجتمعات في هذه الحالة ستنمو في متوالية من الفشل والإضرار بالسلام الاجتماعي وبرسالة الثقافة والدين.
ففي هذا التأميم لا تعود الثقافة، بكل أوعيتها وتجلياتها (قصة وفنون تشكيلية ونحت وموسيقى ورواية وشعر ودراما وفلكلور ومسرح وتصميم، وأسلوب حياة، واحتياجات روحية ودينية...) تعكس وعي المجتمع لذاته وعلاقته بموارده وحياته وبالعالم؛ بل تعكس تخطيطاً حكومياً، حتى إن كان حسن النية، فإنه يتحول إلى عمل معتسف ومعزول، ويحول المجتمعات إلى متلقٍّ سلبي للثقافة، وليست شريكاً حقيقياً منتجاً. إذ يفترض في الثقافة أن تعبر عن إدراك الأفراد والمجتمعات للحق والخير والجمال، ووعيهم لحياتهم واحتياجاتهم المستمد من هذا الإدراك الواعي أو غير الواعي والمعترف به وغير المعترف أيضاً. هكذا، تتشكل رؤية الناس، أفراداً ومجتمعات، للأفكار والسلع والخدمات والاتجاهات والفلسفات؛ وتتشكل أيضاً جدالات اجتماعية ضرورية بين الأفكار والرؤى. وتنشأ المدن والأسواق والسلع بناء على تقدير الناس والمجتمعات لما يحبون أن يكونوا عليه، وتكون الوظيفة الأساسية للثقافة والفنون مساعدة الأفراد والمجتمعات على تحويل أفكارهم وخيالهم وأحلامهم إلى أنظمة معمارية واقتصادية واجتماعية، وعلى نحو عملي تحويل "الخيال" إلى مورد يحسن حياة الناس ويعظم الموارد ويجددها؛ فليست الثقافة منفصلة عن حياة الناس ومواردهم.
وفي حالات كثيرة، تفرض السلطة على الثقافة والفنون أشخاصاً وهيئات وأفكاراً واتجاهات من غير حراك اجتماعي ثقافي يعكس هذا الحضور، فتتحول الثقافة والمؤسسات القائمة عليها إلى عمليات حشد ومنفعة من غير فعل ثقافي، أو بفعل ثقافي هزيل أو منفصل عن اتجاهات المجتمعات، وأسوأ من ذلك أن ذائقة الأفراد والمجتمعات تتعرض للتدخل والتشوية، والعجز عن الإحساس بالجمال والتمييز بين القبيح والحسن. ولا يتوقف هذا العجز على المنتجات الثقافية والفنية والدينية، بل يمتد أيضا إلى الحياة اليومية والسلوك الاجتماعي والسلع والخدمات. ويمكن الاستدلال على ذلك باتجاهات الأسواق في البناء واللباس والطعام وتخطيط المدن والبيوت والسلوك الاجتماعي.
ولأن الأداء الثقافي يستمد وجوده من التمويل والدعم الحكومي أو المنح التي تقدمها شركات ومنظمات دولية، فإنه لا يعود معنياً بالتفاعل مع المجتمعات أو بكسب تأييدها ومشاركتها، بل تتشكل -ويا للغرابة- مصلحة لهذه الكيانات الثقافية والاجتماعية أن تكون أعمالها وبرامجها بلا حضور أو مشاركة وتفاعل؛ ففي ذلك يكون في مقدورها أن تنتج أعمالاً ونشاطات وهمية أو ضعيفة، تكاد لا تحدث إلا في وسائل الإعلام؛ أو تجعل من حفلات الاستقبال والعلاقات العامة مؤتمرات علمية وأمسيات ثقافية وفنية لا يهتم أحد بمستواها أو محتواها، ما يريح العمل الثقافي من الإبداع والتقييم الاجتماعي، بل ويمكنه من توفير نسبة كبيرة من الميزانيات والأموال المخصصة للثقافة لتتحول إلى مكافآت واستشارات ووظائف غير حقيقية، وتتحول المنظمات الثقافية والاجتماعية إلى مؤسسات فردية تجارية أو تنفيعية لفئة قليلة من الناس تعادي المجتمعات والثقافة، لأنه وبالضرورة سيكون لها مصلحة في هذا العداء. إذ في اللحظة التي تكون فيها المجتمعات قادرة على المشاركة والتأثير والتقييم، فإن هذه المؤسسات والشخصيات تتعرض للاختبار والمحاسبة، وعلى الأغلب ستتبخر، هذا إن لم تحاكم بتهم تبديد الموارد العامة.
وأخيراً يحدث ما هو أسوأ؛ عندما تفقد المجتمعات ثقتها بالثقافة والمثقفين، وتراهم فاشلين أو معزولين، وتفقد القدرة على التمييز بين الثقافة والفنون الحقيقية المجدية وبين تلك الوهمية الخاوية.
الغد 2017-02-02