الاستيطان المسكوت عنه
الاستيطان ليس فقط للارض والتراب، والاخطر منه هو الاستيطان الفكري والسياسي الذي يستهدف الوعي حيث يسعى الى تجريفه اولا، وجرافات هذا الاستيطان قد تكون كتبا او مقالات، اشبه بالحلوى المسمومة لأن ألف صفحة منها قد توظف لتهريب فكرة واحدة، وحين نراجع ما ساد من ثقافة في عالمنا العربي خلال العقود الاربعة على الاقل نجد انه كان ملغوما والطّعم فيه هو العدمية واللامبالاة اضافة الى التلاعب المنهجي بقائمة الاولويات، فالاساسي ثانوي او محذوف والثانوي هو الاساسي، وهكذا اصبحت الكماليات هي الضروريات، فالثرثرة عبر الهواتف النقالة اخذت حصة الصحة والتعليم، وما ينفق يوميا في العالم العربي على الثرثرة مليارات لا ينافسها الا المليارات التي تنفق على التسلح القسري الذي ينتهي الى الاستعراضات ثم يتراكم عليه الصدأ !
وكما ان هناك مستوطنات يسطو فيها المستوطن على حقوق المواطن ولها نمط انتاج من طراز غير مسبوق، فان هناك بالمقابل مستوطنات فكرية، تستهدف الذاكرة القومية وتعيد انتاج التاريخ بما يلائم استارتيجيات الغزو والسطو، وللمثال فقط اذكر انني قرأت كتابا بعنوان الاغتراب استخدمت فيه مئات الصفحات من اجل تهريب فقرة واحدة هي ان ارقى المعارض الفنية تشهدها تل ابيب بسبب فائض الحرية التي ينعم بها الاسرائيليون .
وكان الشاعر معين بسيسو قد رصد عشرات القصص المكتوبة للاطفال ومنها ما هو مترجم وتوصل الى انها بالفعل حلوى مسمومة وملغومة بوعي سالب يفرغ الذاكرة من مخزونها الوطني ويحول الجلاد الى ضحية بعد ان يسطو هذا الجلاد حتى على انين ضحاياه !
ان الاستيطان الآخر المسكوت عنه لا تصدر له قوانين ولا يصوّت عليه الكنيست لأنه يتسلل الى العقل من ثقافة تساهم الميديا في بثها عن علم او بدون علم وفي الحالتين فإن المصيبة عُظمى !
ان كلمة واحدة في فيلم عربي او رواية قد تدفع الرقيب الى مصادرتها، لكن كل ما يجري بثه من ثقافة الاستيطان الفكري يمرّ بلا رقيب او حسيب !
الدستور 2017-02-08