بين الحب البشري والحب الإلهي.. فوارق جوهرية وتساؤلات
المدينة نيوز :- الحب البشري صورة عميقة من صور الوصال الدنيوي، وهو عطاءٌ متبادل بين الرجل والمرأة، فيه نجد المرأة العاشقة تشعر، بأن الرجل الذي تحبه، هو الذي يتوجها على عرش قلبه، والذي لا يمكن أن يعيش بدونها، وقد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من صميم وجوده، وفيه نجد النساء العاشقات يجدن لذة كبرى في خدمة أحبابهن والاستجابة لمطالبهم، وتحقييق كل رغباتهم، حتى أننا نلاحظ في بعض الأحيان أنه كلما زادت مطالب الرجل ورغباته زاد شعور المرأة بالرضا والسعادة.
فالمرأة التي تُحبُّ، تشعر بأنه قد اصبح لها قيمة كبرى، لأنها استطاعت ان تهتدي الى النصف الاخر من الحياة. وأنه ليس أقسى على نفس المرأة، من أن تشعر بأنها زهرة جميلة، لا يشتهيها أحد أو عطر لا يرغب في تنسمه أحد، ولكن أليست المرأة هي المخلوق الذي لا يستطيع المرء أن يحيا بدونه، ولا يستطيع في الوقت نفسه أن يحيا معه أو أليست المرأة والحب في الحياة هما جناح النفس البشريه؟.
الحب الطبيعي
في الحب البشري .. إذا ميز الرجل المرأة بين جميع النساء، فذلك هو الحب !، وإذا ميز الرجل المرأة، لا لأنها أجمل النساء، ولا لأنها أذكى النساء, ولا لأنها أولى النساء بالحب، ولكن لأنها هي هي بمحاسنها وعيوبها، فذلك هو الحب ! . يقول العقاد في كتابه « ساره « إن حواء أخرجت الرجل من جنة عرضها السموات والأرض، وبناتها كل يوم يخرجن من جنات .. فهل المرأة ضرة الجنة، تغار منها غيرة الضرائر؟ لا ندري، ولكنها هي المرأة أبداً، لا تريد للرجل أن ينعم بغير نعيمها أو يسعد بغير سعادتها، وربما أرضاها أن تكون سبب ألمه وألمها، ولم يرضها أن تشاركه السعادة الوافية، إن كان للسعاده سبب سواها ! .
وفي الحب البشري... هناك دائماً عيونٌ تدمعُ وقلوبٌ تتوجعُ وتتألم، وإنَّ ماعرفنا فيمن ذابوا على الأرض حباً وغراماً، مثل قصة عشق الأميرة ديانا فايد وغرام كيت وينسلت بطلة فيلم تايتانك الشهير، وقبل ذلك، مثل ليلى قيس، وليلى توبة، وعنتر عبلة، وجولييت روميو, وكليوباترا انطونيو، وغيرهن في الشرق والغرب، وكلها قصص حظيت باهتمام واسع من الكتاب والشعراء والمجلات النسائية المتخصصه، والأجهزة الإعلامية كافة.
فهؤلاء النسوة اللاتي كن ضحايا الهيام والهوى، قد هدَّهن الحبُّ البشريُّ، بتباريح الشوق والحرمان، فكانت قصصهن أعاجيب في احتمال الضيم والأسى، وبذل الروح والفداء من أجل الإنسان المحبوب، الذي عزَّ الوصول إليه واستحال، وتقطعت دونه الآمال، فهن لم يرفعن نحو السماء أعينهن الضارعة، التي ملأها البكاء والرجاء، إلاَّ لكي يتوسلن الى الله، بأن يستجيب لهن، وأن يخفف عنهن غمرات اللوعة والشقاء، ولهؤلاء في تاريخ الحب، الذي تيمَّهُنَ أمثال ونظائر لا يحصى لها عد، تعجُ بسير العشق والغرام، فيهنَّ العفيفة اللهيفة، المتهتكه المتهافتة، كن يعشقن المخلوق الفاني، ويجدن الحياة والحب، نِعْمَى هذه الدنيا وفرحة الوجود.
فالحب البشري، يقف دائما على حافة الانحدار أو الفشل، كما أن تحوّل الحب إلى كراهية، فعل يسير لا يحتاج إلى كبير عناء، ولكن دراما الحياة البشرية تضطرنا دائما إلى أن نحب لنعيش أولاً، وللخروج من عزلتنا الأليمة ثانياً، وأن الحب في دنيا البشر هو – مع الأسف- قيمة خاطفه، أو- إن صحَّ هذا التعبير – « مطلق نسبي « وآية ذلك أن الإنسان لا «يحب» حقاً – اللهم إلاَّ في لمحة خاطفة لا تدوم أكثر من «آن»Instant !، وهذا هو السبب في أن الحب البشري يتذبذب بنا دائماً بين قطب الحياة وقطب الموت!.
الحب الابدي
في الحب الإلهي بوصفه صلة مشَّخصة بين الإنسان والله، ففيه نجد فوارق جوهرية في المفهوم والماصدق، وفيه نجد المحب لله يريد أن يفني نفسه، لكي يُقبِل بكل همته على ربهِ، ويريد أن يتجرد عن كل شيء ما عدا الله، لكي يحيا ويوجد ويتحرك في الله، لأن المحبة الإلهية هي «محو المحب بصفاته، وإثبات المحبوب بذاته...» وهي خروج عن رؤية المحبة إلى رؤية المحبوب، وهي أيضاً؛ ميل الإنسان إلى الله بكلتيه، ثم إيثاره لله عن نفسه وروحه وماله، ثم موافقته لله سرا وجهراً، مع علمه بتقصيره في حب الله... ومعنى هذا أن العاشق أو العابد في محرابه يريد لصلاته أن تستجاب، ويطمع في الوصول إلى تحقيق ضرب من الاتحاد بينه وبين الذات الإلهية... فالحب الإلهي في النهاية، هو صورة من صور العبادة لله، هذه الصور قد نجدها مثلاً بوضوح عند الصحابة والتابعين والأتقياء، وعند جلال الدين الرومي، وابن عربي، وابن الفارض، وإن كان أبرز تلك الصور وضوحاً عند رابعة العدوية العاشقة المتصوفة، الذي كان حبها من طراز أسمى، تأبى على البشريه وارتقى إلى الأنسانيه المثلى، بل تجاوزها إلى الذوبان والاحتراق في حب سماوي، لم يسبقها إليه أحد في الإسلام، ولم يبرز من أهل الأرض بينهم واحد عشق ومات في سبيل معشوقه دون أن يراه، إلاَّ رابعة، فقد أحبت حتى العشق مولاها الخالق، حب لا يشبهه حب، لا يرى فيه المحبوب، وإنما يتجلى في بدائعه وأكوانه وفي كل آية من آياته، وهذه لمحات ونفحات مختصرة من كلمات رابعة عبرت فيها عن هذا الحب الالهي، الذي تيمها ورقق وجدانها، وفاض من إيمانها، قالت تناجي محبوبها الأوحد، بضراعة وخشوع، ونفسها تسمُو عشقاً وصفاءً، موكدةً سبب عبادتها لله بقولها:
ـــ وعزتكَ يارب، ماعبدتكَ لجنتك، بل لمحبتكَ، وليس من أجلها قطعت عمرِي في الوصول إليها ... يارب: أتحرق بالنار قلباً بحبك، ولساناً يذكرك، وعبداً يخشاك. إلهي... إذا كنت أعبدُك خوفاً من النار، فاحرقني بالجحيم، وإذا كنت أعبدُك طمعاً في الجنة، فاحرمني منها، أما إذا كنتُ أعبدُك من أجل محبتك، فلا تحرمني يا إلهي من وجهك الكريم ... وكانت رابعة كلما ناجت ربها في صلاتها ـــ التي كانت تزيد عن الألف ركعة في اليوم والليلة ـ تضرعت إليه أن يقبل توبتها وعبادتها قائلة:
أحبك حبين، حب الهوى
وحبَّاَ لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهلٌ له
فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاكَ لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاك
لقد ابتدعت رابعة هذا الحب الإلهي في الإسلام، وفي مذهب الصوفية، وعاشت تبشر بتعاليم الروح النقية، وتهذيب البشرية... أنه حب يبعث الشوق والسرور لوجه الله، ولجماله وبهائه ولجلاله، والإعتراف بفضله، الذي انكشف لها وهو أعلى الحبيبين، فكانت ذكراها خالدة مجيدة في آثار من جاء بعدها، أو تلقى عنها، وتأدَّب بأدبِها من المتصوفين والعارفين.. لقد عاشت رابعة زاهدة متصوفه، وعاشقه لا كعشق النساء في الحب البشري .. وحسبها فضلاً عن ذلك، أنها تركت للنساء باب عزٍّ ومجدٍ لا يُغلق، وإذا كانت منهُن تقدَّمت صُفوف المُتقين، وعُـدَّت حُجةً لهُنَّ في العبادة والدِّين.
لا شكَّ أن رابعة العدوية نجماً تلألأ في سماء البصرة العراقية وسطع نوره في أواخر القرن الأول للهجرة، تسلل نوره إلى المجالس والبيوت، وكان فيها كالثريات، وبقى مرموق الضياء حتى هوى في أعقاب العصر الثاني للهجرة النبوية، متحولاً إلى أحدوثة لاتنسى، خلدتها السطور ولهجت بها الألسنة، وتداولها بالذكر والتأليف طائفة من الباحثين في القديم والحديث، رحم الله رابعة رحمةً واسعةً.
قصارى القول.. أنَّ الحب الإلهي هو أسمى درجات الحب البشري، إن لم يكن هو القيمة الوحيدة التي تَخلع على سائر القيم كل ما لها من قيمة، وهو مركز الحياة والمعنى، ومنبع السعادة والقيمة. وإنَّ تاريخ البشرية بأسرها، يمكن أن يكتب بلغة الحب لله دون الكراهية للبشر، أليس الحب الإلهي، هو تلك النجمة الوضَّاءة، التي تضيء السبيل أمام كل زورق تائه في الحياة الدنيوية؟ من منَّا لم تتفتح عيناه يوماً، لتريا أن الحب لله، مجرد كل رغبة جسدية شهوانية، أو أن يكون «مجرد أنانية» منطوية على ذاتها، مستغرقة في لذاتها... من منّا لم يحب الله لذاته، طمعاً في عفوه وغفرانه والسكن في فردوسه الأعلى. " الرأي "