الانتحار في الأردن.. مؤشر مشؤوم!
كنا نسمع في السابق أن الناس ينتحرون أكثر ما يكون في البلدان الاسكندنافية. والسبب: أنّ حياتهم مرفهة جداً ولديهم كل ما يحتاجونه، بحيث لا تعود لديهم أشواق وغايات، ويفقدون معنى الحياة فينتحرون. وقيل إن امتلاء حياتهم مادياً يصيبهم بـ"فراغ روحي" لا يصيب عادة أصحاب الروحانيات والدِّين مثل الشرقيين. لكن هذه الأقاويل عن الدول الاسكندنافية والانتحار عارية عن الصحة. ليس مواطنو تلك البلدان الأكثر انتحاراً، ولا هم قريبون من المراكز الأولى في معدلات الانتحار. أما الدولة الأعلى انتحاراً فعلاً، حسب إحصاءات العام الماضي، فهي لاتفيا؛ من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، تليها كوريا الجنوبية.
تقول جهة تعنى بإحصاءات الانتحار إن "الانتحار لا يعرف حدوداً ديمغرافية أو اقتصادية. والبلدان ذات معدلات الانتحار المرتفعة هي مجموعة متفاوتة بشدة. فيها بلدان صغيرة وكبيرة، وغنية وفقيرة". لكن هذا لا يلغي محاولة الربط بين المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية وبين الانتحار إذا كانت معدلاته تتصاعد بطريقة درامية، كما يحدث في المجتمع الأردني في السنوات الأخيرة.
تقول إحصاءات محلية إن الأردن أصبح يشهد حادثة انتحار كل ثلاثة أيام. وقد ارتفعت الأرقام من 39 حادثة انتحار في العام 2011 إلى 113 في العام 2015، و117 في العام 2016. ويعني ذلك أن النسبة ارتفعت بمقدار 300 % تقريباً في غضون خمس سنوات. ولا تشمل الأرقام محاولات الانتحار الفاشلة أو التهديد بالانتحار أو الحالات التي لا يتم الإبلاغ عنها لمختلف الأسباب.
على الرغم من أن البعض يعتقدون أن الانتحار في الأردن ليس بمستوى الظاهرة التي تستحق التوقف عندها كثيراً، فإن نسب الارتفاع في وقت قصير تدعو إلى مراجعة هذه الفكرة. ويبدو أنه لا يمكن بأي حال فصل هذه الممارسة عن المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يشهدها البلد. ويستدعي السياق ما ذكرته الكثير من التقارير عن معاناة مليون شخص في الأردن من مرض الاكتئاب. ومن المعروف أن الاكتئاب يؤدي إلى تعزيز الميول الانتحارية.
وعلى الرغم من عدم التصريح بذلك رسمياً، فإن من المنطقي تقدير أن سوء الأوضاع الاقتصادية وانسداد آفاق التحسن وسيادة مشاعر عدم اليقين وغموض المستقبل، كلها أسباب تدفع إلى الاضطرابات النفسية والقلق. وقد نقل تقرير نشرته "سي. إن. إن العربية" في العام 2016 عن شاب أردني كان ضمن مجموعة شبان هددت بالانتحار من فوق مبنى قوله: "مكسور عليّ إيجار بيتي سنة كاملة، وعليّ غرامات دفع كهرباء بألفي دينار، وعلي 150 دينارا فاتورة كهرباء.. عايشين من قلة الموت".
"عايشين من قلة الموت" تعني حتماً شيئاً لا يشبه مطلقاً انتحار الاسكندنافيين المزعوم بسبب الإشباع. وهو تعبير يجسد اليأس البالغ من الانفراج، ويدق أجراس الإنذار مما قد يفعله اليائس. ولا يملك المراقب إلا أن يتساءل عن التجاهل الغريب لفكرة أن اليأس يولد الانفجار. وقد ارتفعت أصوات لا تُعدّ، تحذر من مظاهر العنف الاجتماعي والجامعي، وتوتر الشخصية الاجتماعية، وتراجع الأداء العام، والارتفاع المحلّق في الضغط على عقل الفرد وجيبه ونفسيته.
ربما لا يكون الانتحار مجرد حدث إنهاء الحياة نفسه. ثمة الحياة على ذمة الموت؛ حين تتلف النفسية بسبب ثقل الضغوط فيتخدر الإحساس بالحياة، وتنحدر الإنتاجية وينسحب الأفراد من المشاركة الاجتماعية ويميلون إلى العدائية. ومع تزايد الداخلين في هذه الفئة، يصبح الوصف سمة اجتماعية لا يحب أي مجتمع أن يتصف بها. ولا بد أن يكون التطرف الذي يقود حرفياً إلى الانتحارية، متصلاً بفقدان الأمل من الحلول الدنيوية والبحث عن الخلاص في مكان آخر.
مع اقتصار الحلول في البلد على إدارة الأزمة الاقتصادية برفع الأسعار المجنون والضغط على أحوال المواطن وتعميق أسباب كآبته، لا عجب أن تتزايد السلوكيات التي تعبر عن اختلال التوازن. وهي وجهة مشؤومة لا تشي بخير. ويزيدها قتامة أن أحداً لا يعلن عن أي ضوء في نهاية النفق يمكن أن يتعلق به الناس ويعللون به أنفسهم. لا أحد يقول مثلاً: "تحملونا سنة -أو عشرة- وسنفرج عنكم كما يلي".
الغد 2017-02-16