كثير من التدين.. قليل من التأثير في أزمة الأخلاق
أعداد هائلة من الناس ذهبوا إلى العمرة خلال عطلة المدارس والجامعات، حتى من أولئك الذين بالكاد يتدبرون أوضاعهم المعيشية، وتلك قصة أخرى تستحق التوقف، ولا تشملها هذه السطور. غالبية من الناس يصلون ويحرصون على الفرائض وحتى النوافل، ويظهرون التدين صادقين، لكن تأثير ذلك مع الأسف على أزمة الأخلاق في المجتمع يبدو محدودا، أو لنقل أقل من المأمول إذا اعتبرنا أن جوهر الدين هو المعاملة مع الناس (انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق- الحديث)، ولا ندري هل ينتج ذلك عن فهم خاطئ للدين والتدين، أم عن أزمة في الوعي، وربما الوعظ أيضا؟!
لا نحتاج إلى حديث كي ندرك أن جوهر الدين هو تحسين فرص البشر في التعايش فيما بينهم (ليقوم الناس بالقسط- الآية)، إن كانوا من الأرحام، أم الجيران، أم عموم المجتمع، فكل الكبائر التي تحدث عنها القرآن الكريم هي في جوهرها عدوان على المجتمع (القتل، السرقة، الزنا، عقوق الوالدين، شهادة الزور.. إلخ)، فيما لا يعني ذلك أن ما تبقى من السلوكيات المنبوذة هي عادية، وفي القرآن عشرات من الأوامر والنواهي الأخرى التي تتعلق بالآخرة (ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضا.. إلخ)، بل إن جوهر رسالة أحد الأنبياء (شعيب عليه السلام) كانت (أوفوا الكيل، زنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم..).
لست واعظا، ونادرا ما أبتعد في هذه الزاوية عن شؤون السياسة وشجونها، لكن هذه المسألة تبدو ملحة إلى حد كبير، إذ تصدمك في كل حين، إن كان مباشرة، أم مما تسمعه من الناس يوميا. ويكفي أن تذهب إلى المسجد، في صلاة عادية، فضلا عن صلاة الجمعة حتى ترى كيف يعتدي بعض الناس على بعض بفوضى السيارات والأحذية، وتخطي الرقاب، ما يشعرك بالغصة من هذا التناقض، أو لنقل التشوّه في الوعي الديني الذي يخلط في ذات اللحظة بين العبادة؛ وبين الاعتداء على حقوق الناس.
أما قيادة السيارة فهي تريك العجب من اعتداء البعض على حق الآخرين، ومن إلقاء القاذروات من النوافذ، إلى غير ذلك من الممارسات التي تحزن حين لا تراها بين الغربيين؛ وغالبا من منطلق أخلاقي إنساني، وليس دينيا.
أما في المعاملات التجارية والمالية، فسترى العجب العجاب من أكل أموال الناس بالباطل، بتأوّل لبعض النصوص أو بغير ذلك، فضلا عن الكذب في المواعيد وما شابه ذلك؛ وأحيانا من أناس لا يظهرون التدين العادي وحسب، بل الكثير من التدين الذي قد يخدع بعض البسطاء بالقول إن هذا شيخ، ولا يمكن أن يصدر عنه كذا وكذا.
يشعر المرء بالغصة إذ يتحدث عن هذا الأمر المتعلق بالممارسة اليومية مع الآخرين، فضلا عن الالتزام بقضايا الأمة وهمومها، وعدم إدارة الظهر لها، أو الانحياز للظلم والظالمين أو تبرير ما يفعلون، وهذه بالتأكيد هي الجريمة الأكبر التي يرتكبها البعض، لكأنها غير ذات صلة بالدين والأخلاق.
بوسع كل منا أن يتحدث في هذا الشأن، وأن يضرب الكثير من الأمثلة، لكن الأهم هو أن ينجح في تجسيد ذلك في سلوكه اليومي من جهة، ثم يكون آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر من جهة أخرى، لا أن يتصرف كأن الأمر لا يعنيه إلا في الإطار الشخصي، فضلا عن التورط في تخذيل من ينهون عن المنكر، ولو كان رفضا لأن يعتدي أحدهم على طابور انتظار “السرفيس”، أو المؤسسة العامة أو الخاصة، أو يغلق بسيارته طريق المرور على آخر قرب باب المسجد بدعوى العجلة كي لا تفوته الصلاة.
بقي القول إن هذا الحديث لا يعني غياب الصورة الأخرى ممثلة في قطاع من الناس ينسجمون مع أنفسهم، ويقدمون صورة رائعة للمتدينين، في ذات الوقت الذي قد تجد فيه أناسا غير متدينين، أو غير مسلمين، ولكنهم في التعامل مع الآخرين يقدمون نموذجا متميزا أيضا.
الدستور 2017-02-21