تزييف التنمية
نتطلع إلى يوم تقوم فيه مؤسسة عامة أو خاصة أو أهلية، أو فريق علمي أكاديمي، برصد المشاريع التنموية في آخر عشر سنوات في مختلف المجالات، وبيان ما فشل منها وما نجح، وتجيب عن سؤال محير: لماذا ومتى تفشل التنمية في الحالة الأردنية؛ ولماذا ومتى وأين نجحت؟ لن يتم ذلك من دون رصد وتقييم ما أُنجز من آلاف الدراسات والاستشارات التي تسبق عادة هذه المشاريع أو تصاحبها في مراحلها التنفيذية، وتقيّمها بعد تنفيذها.
الانظباع العام الذي يحتاج إلى إثبات أو نفي، هو أننا إلى هذا اليوم لا نعرف بشكل علمي دقيق لماذا نفشل ولماذا ننجح. وفي الوقت نفسه، لا يوجد لدينا تقييم علمي للأرقام والاستنتاجات والتوصيات التي تقدمها الدراسات التنموية وتلك التي تطلبها المشاريع. لم نسمع في يوم أنه تمت مساءلة المؤسسات الاستشارية التي قدمت دراسات لمشاريع فشلت بإصرار.
هذه المسألة تطرح، ومن جديد، قصة قديمة حول الفرق بين السحر والعلم، لكن هذه المرة في التخطيط للتنمية، وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، وفي بلد أكثر ما يتباهى به هو جامعاته وثروته البشرية. وأهم ما يفخر به على الإطلاق أنه استطاع محاربة الأمية والجهل، وأنجز في ذلك ما عجز عنه الآخرون؛ فقد وقعت التنمية الوطنية كثيرا ضحية سحر الأرقام وزيف الدراسات المعلبة التي تثير الخيال وتحجب النظر عن رؤية الحقائق والوقائع على الأرض.
تنسحب هذه الظاهرة على مستويات متعددة من الأنشطة التنموية؛ بدءا من دراسات الجدوى للمشاريع الصغيرة التي تمولها مؤسسات تمويلية أنشئت تحت لواء معركة مكافحة الفقر والبطالة وتقدم قروضا مرهقة لفئة متعبة من المواطنين؛ إذ غالبا ما تأتي حسابات البيدر مفارقة لحسابات الحقل، مرورا بأرقام ومؤشرات التنمية المحلية ودراسات مشاريعها التي تتم عن بُعد وتدار عن بعد، وصولا إلى دراسات المشاريع الاستراتيجية والكبيرة. ولدينا خبرة واسعة من الحصاد المر لدراسات شكلية زيفت الوقائع، ودفعت ثمنها البلاد بفشل سلسلة من المشاريع وتعثر أخرى، وتوقف ثالثة قبل انطلاقها حينما كُشف في اللحظة الأخيرة عدم صدقية هذه الدراسات وموضوعيتها.
قيل في الماضي إن أدوات الساحر والعالم تتشابه، وقد عانى العلم من هيمنة السحر حتى انفك منه بعد صبر ومعاناة. فمجرد وجود دراسة لفكرة ما أو مشروع ما، يخلق حالة تشبه ما يسمى في علم نفس الجماعات "الرنين الذهني"؛ ويكفي أن يقال إن هناك دراسة حول الموضوع أو المشروع ليصمت الجميع وتُعطّل الخيارات الأخرى.
أما سحر الأرقام والمؤشرات فلا ينافسه دليل أو محاججة أخرى، ببساطة أصبح كثير جداً من الدراسات الفنية ودراسات الجدوى والدراسات البيئية وغيرها من مجالات تخدم التنمية، مجرد نزف للورق والحبر، أضف إلى ذلك الخدمات الاستشارية. ولا تكاد تشترط الإدارات الحكومية، وهي المستهلك الأكبر لهذه الدراسات والاستشارات، سوى الوجود الشكلي لها، وقد تحولت بالفعل إلى مجرد عبء مالي وإرضاء لقطاع واسع من المستفيدين الجدد، وجزء من ديكور تنموي، واستجابة ساذجة وسلبية -من زاوية أخرى- لتوصيات منظمات وهيئات دولية، وقبل ذلك أداة لامعة للحضور الإعلامي.
لا تنمية حقيقية من دون معرفة، ولا معرفة من دون دراسات وأرقام. لكن الطامة الكبرى حينما يختلط السحر بالعلم، وتتحول التنمية إلى أحاجٍ وألغاز.
الغد 2017-03-04