إغراق في التواصل وندرة في الاستماع
ترمز "نهاية المطبعة" إلى أزمة الدولة الحديثة منذ العام 1990 (تقريبا)؛ إذ كان في مقدور النخب قبل ذلك أن تنشئ للمواطنين فهمهم لذاتهم، وأن تقودهم نحو صورة للذات تقترحها السلطات السياسية والمؤسسات والنخب التابعة والمتحالفة معها. ففي الكتاب المدرسي الموحد والوحيد، وفي القدرة الاحتكارية على صياغة التعليم والإعلام والثقافة والإرشاد، والتحكم بالحدود والفضاء... كانت النخبة قادرة على تشكيل المجتمعات والجماهير والأسواق، وأن تفكر للمواطنين وبدلا منهم. لقد أنشأت في ذلك حالة من التبعية والاعتمادية، لكنها وعلى نحو ما، كانت علاقة مريحة للسلطة والنخب والمجتمعات.
إلا أن "الشبكية" أضافت أزمة جديدة وعميقة في الفهم المتبادل بين النخب والجماعات والمجتمعات والأفراد؛ فلم يعد ممكنا التحكم بتدفق المعلومات والسلع، وصار الناس يعتقدون أنهم قادرون على الاستغناء عما تقدمه لهم النخبة المحلية، إذ في مقدورهم أن يتواصلوا مع العالم ويصلوا الى الأسواق والجامعات والمصادر المعرفية، وأن ينشئوا منصاتهم الخاصة للتبادل المعرفي والعملي. فيما ما تزال النخبة تفكر أن في مقدورها صياغة الاتجاهات والأفكار لدى المجتمعات والجمهور ورواد المدارس والمساجد، كما كانت الحال قبل الإنترنت.
يُظهر الإعلام التفاعلي اليوم أن أحدا لا يكاد يفهم الآخر كما هو؛ فالتعليقات والاتصالات والمناقشات والسجالات التي تدور توضح مدى صعوبات التعلم والاستماع الكاسحة، والتي تشل الحالة السياسية والثقافية والإعلامية، وتعطل العمل والتعليم أيضاً. ومن يتابع النقاشات والمساجلات الإعلامية التي تدور بين الأشخاص والأطراف المختلفة، يلاحظ أن أحداً لا يستمع إلى الآخر.
ليس الحوار؛ بما هو استماع فيزيائي حقيقي للآخر واستيعاب لفكرته، قضيةَ ترفيه، بل مدخل منهجي ضروري لا يمكن تجاوزه لأجل التعلم والتقدم، واستيعاب حضارة الآخر وثقافته وتقنياته ومنتجاته وتشغيل سلعه وأجهزته. ولشديد الأسف، فإن الكاميرات والأضواء والميكروفونات وشبكات التواصل والتدوين، لم تفد في النفاذ إلى جوهر الحوار وأهدافه.
الحوار قضية كبرى وجوهرية يجب أن نبحث عنها في الحكم والسياسة والإدارة، والتعليم والسلوك والثقافة، والصناعة والتجارة والتقنية، واللغة والموسيقى والتأمل والصمت، والعبادة والفقه والتلاوة. وهو فلسفة تصوغ الحياة والعمل والفكر، وتؤسس للمجتمعات والدول والمنظمات. وغياب الحوار ظاهرة مفزعة، ويؤشر إلى أن الأطراف لا تريد أن تفهم بعضها كما هي، وأن النخبة أيضا تريد من الجماهير أن تكون كما تتصورها وأن تنظر إلى النخبة كما تتصور ذاتها. لكن الحال مغايرة تماما للتصورات عن الذات وعن الآخر. المجتمعات لم تعد تثق بالنخب ولا تراها بالأهلية التي تظن نفسها فيها؛ والنخب تعتقد أن المجتمعات تابعة لها وتنشئ تصوراتها وقيمها مما تقدمه في مؤسساتها المهجورة والخاوية على عروشها.
إن المجتمعات لا تتشكل على نحو تلقائي بمجرد وجود ساكنين أو مقيمين أو مواطنين يعيشون معا. فهي ليست مجموع الأفراد، بل كيان مختلف وان كان يتشكل منهم. في الواقع، يتشكل المجتمع من تفاعلهم وعلاقاتهم ووعيهم. ومعادلة التشكيل هذه لم تعد تملكها النخب. وكما أن الحياة يستدل عليها بالأحياء، فإن المجتمعات يستدل عليها بوعي الذات؛ كيف تعي المجتمعات اليوم ذاتها؟ وكيف تراها النخبة؟
الغد 2017-03-08