في المتحدثين والكاتبين
ثمة في الناس من يقتحم المهالك ويعتسف الفيافي فيما يخوض فيه من حديث, لا يتبين مصادره من موارده, ويخبط فيه خبط ناقة عشواء او بهيمة خرقاء, فاذا انت اردته على الوضوح واستقصيت مراداته ألفيته خلواً من أي مقصد سوى ما يرومه من اثبات وجوده على قاعدة: انا اتكلم اذن انا موجود, وانا صاحب لسان وشفتين, اذن فأنا جدير بأن يسمع الاخرون ما اقول. وليته يقول شيئاً ينم على معنى يمكن النظر فيه أو تكون له دلالة خارج دائرة ذاته الضيقة أو أفقه الوطيء.
ولقد رأينا من يفرض نفسه في المجالس والندوات كما تفرض ذبابة نفسها فهو يطن طنينها المزعج يحسبه صُداح طائر غريد, ويظل يقاطع المتحدّثين ويتهكم بهم, ويعترض ويصخب حتى يضطرهم الى توبيخه أو يضطر أصحاب المجلس الى طرده منه.
كما رأينا من يصطنع اعواناً يهرعون معه الى الملتقيات, فاذا هو تنحنح تمايلوا اعجاباً, واذا هو تكلّم ذابوا وجدا, ولعلهم ان يشغبوا أن رأوا له معارضاً, واكثر ما يكون ذلك في المتمذهبين من فلول الايديولوجيين ممن نملك ان نسمي بعضهم لولا ما نعلمه من شغفهم بأن يذكروا ولو كان في باطل ما هم فيه, أو بأن يشار اليهم ولو على سبيل السخرية والازدراء.
وثمة خلق معجب من المتأنقين تراهم كالخشب المسندة يحسبون كل صيحة عليهم, وترى أحدهم مأخوذاً بالنظر في عطفيه, يترقب أن يطلب أحدهم رأيه في هذه المسألة أو تلك, فاذا كان ذلك تمايل وتثاقل وطفق يمط كلماته مطاً ويخرجها مخرج الادلال والمباهاة كأنما هو ينثر الدرر في سامعيه, كيف لا وهو في عجب مما يتملّقه به الناس لسبب أو لآخر, كأن يكون صاحب منصب أو صاحب مال أو مسؤول حزب أو ما شابه ذلك.
انموذجات متكثّرة يسمح لها فساد حياتنا الادبية بأن تطفو على سطحها وتغشى اديمها. وما نحتاج ازاءها الا انتظار سنن الحياة وطبائع الاشياء, اذ لا بد أن يذهب الزبد جفاء وأن يتبقى في الارض ما ينفع الناس.
كان مما افدناه من موسوعة القلقشندي: «صبح الاعشى في صناعة الانشا» ان من شروط اختيار كاتب الديوان أن يكون ملمّاً بمعارف شتى مشتملاً على كفايات جمّة, وكان قارئ هذه الموسوعة قميناً بأن يكون ظاهراً على مباحث في صناعة الكتابة وفي طرائق البيان حرص القلقشندي على تضمينها كتابه الكبير الذي يمكن اعتباره صورة من صور احتفاء المدنية العربية بالبلاغة واساليب التعبير الوافية بمطالب الدولة في شتى شؤونها.
كان ينبغي لكاتب الديوان –بحسب القلقشندي – ان يكون موسوعي الثقافة, عالماً بالكتاب والسنّة, مطّلعاً على اثار الجاحظ وابن الاثير والجرجاني, متضلّعاً بأصول الفقه وعلم الكلام واخبار الامم, بصيراً بالشعر الذي هو ديوان العرب, فصيحاً, طلق العبارة, قادراً على الترسل في شتى الاغراض.
هذا وهو «كاتب ديوان» تلزمه وظيفته بأن يثقف نفسه بكل ما تقدم. فما بالكم اذا كان يريد أن يكون شاعراً أو ناثراً يدبّج المصنفات, أو كلامياً أو فيلسوفاً أو أصولياً في الفقه أو النحو, أو مؤرّخاً, أو عالم اجتماع؟
تلك مرتبة – في منطق العقل – فوق مرتبة «كاتب الديوان» فلنتصور مطلوباتها وتكاليفها وما تحتاجه من همم وعزمات.
***
أنقول, تلك امة قد خلت, وإنه قد خلف من بعدها خلف أخذهم الذهول فتنكّبوا الرشاد وامعنوا في الفساد, أم نقول إن لكل امة حية كبوة, وأن صبحنا قريب؟
ذلك ما نتردد فيه احياناً بين شك ويقين.
وذلك ما لا نقطع الرجاء بانكشافه عمّا يوقظ الآمال.. ولو بعد حين.
الراي 2017-04-06