التكنولوجيا تصنع تاريخ الإنسان
وهكذا قُسم التاريخ البشري إلى عصور تكنولوجية: العصر الحجري القديم، والعصر الحجري الحديث، والعصر البرونزي، والعصر الحديدي، مروراً بعصر المطبعة، فالعصر الصناعي، وانتهاء بالعصر الرقمي الذي يأخذ العالم نحو تاريخ جديد.
التكنولوجيا هي صانعة التاريخ، وإن كان كثير من الناس لا يدركون ذلك، لأن بقايا المرحلة السابقة من التاريخ تستمر طويلاً في العمل في الحاضر، وتتداخل معه بقوة الاستمرار فينشأ الاضطراب والشعور بالضياع عند الناس. ومن ذلـك – مثلاً- أن الهاتف الخلوي يفصل المرء من شبكته الاجتماعية ويربطه بالشبكة الرقمية أو العنكبوتية، ويضعف تفاعله المباشر مع الناس ويجعله مع الشاشة، وكأنه لم يعد بحاجة إلى أحد بعد ما صار يقدم له كل ما يرغب فيه: للاتصال أو للتسلية أو للتعلم أو للصرّاع.
ولأن جيلنا من الآباء والأمهات والأجداد والجدات نشأ في العصر المنقضي وتكونت ثقافته وقيمه به، فإنه يرثي لضياع المعنى من الحياة، أو الشبكة الاجتماعية على يد الشبكة العنكبوتية الجديدة. كان المعنى بالنسبة إليه على الأرض وفي الإنسان والمجتمع، لكنه يطير الآن بعيداً في الفضاء الرقمي او السبراني.
وكانت السيادة للأسرة أو العشيرة أو القبيلة أو المجتمع أو الدولة ولكنها - بتدخل بوسائل الاتصال الجديدة - تنتقل إلى الفرد. وكان الإنسان مليئاً وثقيلاً بقيم العصر المنقضي وبقايا العصور الباقية ومهتماً بالثقافة الرفيعة، ولكنه يصير الآن فارغاً أو خفيفاً، وكأنه ريشة معلقة في الفضاء لا يدري متى وأين تسقط.
ومن ذلك – مثلاً – أنني لما طلبت من ثلاثة شباب: اثنان منهم يدرسان في الجامعة، وتعمل الثالثة على الصندوق/ الكمبيوتر، تقسيم خمسة على عشرة، ذهلوا من السؤال: هل يمكن قسمة خمسة على عشرة؟ ولما طلبت منهم التفكير في السؤال كان جواب كل منهم غريباً، فقد ذكروا إجابات لا تخطر على البال مثل اثنين أو ثلاثين.. لأنهم لم يتعودوا التفكير المجرد ولم يفكروا، أو لأنهم تعلموا أن السؤال غلط، لكنك لو طلبت منهم تقسيم خمسة دنانير على عشرة أطفال لعرفوا الجواب.
وعندما طلبت منهم تحويل الكسر إلى نسبة مئوية تاهوا أكثر. إن الشباب هؤلاء ليسوا أغبياء فهم أذكياء وخفيفو دم ولكن تعليمهم في المدرسة والجامعة كان غبياً والهاتف الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي تحل محل عقولهم وتفكر لهم أو عنهم.
وعندما سمع شاب يدرس في كلية متوسطة كلمة بروتستانت تعجب، لأنه لم يسمع بها طيلة حياته ولم يستطع قراءتها أو لفظها وطبعها في البداية، ولكنه سأل غاضباً: هل صحيح أن الآيات القرآنية أزيلت من المناهج؟ وقد بدا ثورياً مستعداً للقتال لو كان ذلك صحيحاً.
لقد صارت ثقافة الجيل الجديد سطحية أو عابرة تقوم على الالتقاط من هنا وهناك، فلا يتكون لأحدهم نظرية، أو رؤية، أو منظار، أو عدسة، بعدما ملأته الشبكة العنكبوتية بما لم يخطر على البال، وبما لا يوصل إلى محطة لأنه سريع الزوال، وشديد الملّل. فإذا أضيف إلى هذا الخواء القيمي والثقافي، النداء الاستهلاكي الذي يحول السلعة إلى حاجة بالدعاية والإعلان البالغي القوة والتأثير كما يقول ايفان إليش، أدرك المدركون طبيعة الحياة الجديدة في العصر الجديد، فالجاذبية الاستهلاكية لا تتوقف عن النداء لتفريغ جيبه، والجاذبية العنكبوتية لا تتوقف عن النداء لتفريغ عقله بعدما صار الفرد الجديد يعتقد أنه موجود لأنه يملك هاتفاً خلوياً أو يتّسوق.
كانت الفكرة في الماضي أهم من السلعة. أما اليوم فقد أصبح الأمر بالعكس. لقد صار الهاتف الخلوي والاستهلاك هما العلاج الذي لا يتوقف تعاطيه، وكأن الصحة لا تستمر بدونه، لأن الإنسان صار يُقيّم حسب هاتفه، أو حسب السلعة أو الماركة. شئنا أم أبينا هذه هي ملامح التاريخ الجديد، وسيقبل بها الناس ويتعايشون بها ومعها إلى أن تأتيهم تكنولوجيا جديدة خارقة تغير كل شيء.
الغد 2017-04-07