هي أشياء تغيب.. وعقولٌ تغيب أيضاً..

ثمة مجالان ممتنعان على العلم البشري فلا يضرب فيهما الا بالظن الذي لا يُغني من الحق شيئا، فما وراء افلاك النجوم وما دون افلاك الذرات عوالم مستغلقة ينقلب البصر عنها حسيرا.

على ان في الناس من تستغرقه اوشال من العلوم فيتخبط في زعمه او يزعم في تخبطه انه احاط بشيء او اشياء من حقائق الكون، فهو بين حتم وجزم وقطع وصدع، لا يكاد يقرأ عن افتراض او نظرية حتى ينعق بدعواها او يتقافز بما يكبر في نفسه من فحواها، فان انت لم تترك بصيرتك عن قوله، ولم تخسر وانت تنظر في مطلقاته وحتمياته موازينها، ورددته الى ما يتوافق عليه العلماء من «بطليموس» الى «ابن الهيثم» الى «بيكون» الى «هيزنبرغ» من قصور ادوات العلم عن درك حقائق الكائنات، ومن ان من شأن من يحترم عقله ان يقف به عند حدود استطاعته، وان لا يُكلفه المُحال فيزيده رهقا، فانت اذن في عنت كبير من معالجة نفس ملتوية وعقل متشنج صغير، او في حال ينطبق عليها قول الامام الشافعي: «ما جادلت عالماً اذا غلبته وما جادلت جاهلا إلا غلبني» اذ الجهل هنا علامة على عدم النضوج معرفيا واخلاقيا، ومظنة ان يطوق بالسفاهة صاحبه، وساء ذلك سبيلا.

ولقد يكون بعضهم على ذكر من هذا، او على بعض يقين فيه، ولكن يحول مذهبه او تحول طائفيته او يحول غروره دون الاعتراف به. ومثل هؤلاء قل ان ينكشف عنهم الغطاء الا بأخرة من اعمارهم حيث يصح ان يقال لهم: آلآن وقد جهلت قبل، وكنت من الغافلين؟!.

ثم ان بعضهم ليفتخر بما يعتقده من ثباته على مبدئه (!) ومن تلبث عقودا من السنين على ما كان اطبق عليه ذهنه او أُشربه عقله وهو غض الإهاب، او طُلب اليه ان يحفظه، فان انت ذهبت تحاججه ان هذا تحجر لا مبدئيه، وان عليه ان يعمل على تأهيل نفسه (هذا ان كان في طوقه ذلك) لمحاكمة الافكار ومعرفة غثها من سمينها وراجحها من مرجوحها، فان اقل ما سيتهمك به انك «مثقف بورجوازي» او انك «عدو الشعب» او «عدو الجماهير» او ما شاء له «عقله الكبير» ان يصفك به.


وليس بعيدا عما تقدم من مدعي العلم والمعرفة، اولئك الذين حصلوا علوما ومعارف تناهى اليهم خبرها بعد ان اصبحت في ذمة الزمان. اذا لا يزال في الخلق من يقف في السياسة والاقتصاد عند ماركس وانجلز، ومن يقف في علم النفس عند فرويد وكارل غوستاف يونغ، ومن يقف في علم الاجتماع عند دوركهايم، وفي البنيوية عند كلود ليفي شتراوس. وفي الوجودية عند هيدجر (والعجيب ان هؤلاء جميعا من ابناء عمنا اليهود الا انجلز). واصل الداء هنا انهم استمرأوا التقليد المريح والمضاهأة المجانية دون ان يتمتعوا هم بالاصالة الذاتية والموضوعية وبالقدرة على «النقد» وانهم –في الغالب – لا يتقنون عربيتهم التي هي مفتاح ذخائرهم الحضارية، ولا يتقنون من اللغات الأُخرى ما يطلّعون به على تطور العلوم فيها، فهم يقفون من ذلك عند حد مرسوم وقدر ثابت معلوم.


ولا ننسى طائفة تتخذ بضاعتها المُزجاة من العِلم مِجَناً تتخافت بإلحادها وراءه، او تعلةً تسوغ بها خروجها على أُمتها. وهؤلاء هم «الخوارج العلمويون» وان كانوا يأخذون بالتقية ويخدعون الناس عن حقائق ما هم فيه.

ويظل لنا ان نستحضر ما قاله العلامة نديم الجسر في كتابه: «قصة الايمان بين الفلسفة والعلم والقرآن» اذ قال: إن الفلسفة (التي هي ام العلوم) بحر لا كالبحور، تجد الغرق والهلاك على شواطئه، وتجد الامان في اعماقه.

ثم ان بنا ان نقول من يغرق في شبر ماء من فلسفة او علم ما قاله «ابو نواس» قبل اكثر من الف عام

فقل لمن يدعي في العلم فلسفة

حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء.

هي اشياء تغيب. او عقول تغيب، وحسبنا ان نكون على ذلك من الشاهدين.

الراي 2017-04-18