الأمعاء الخاوية وحفلات الشواء
في أواخر الاسبوع الثاني من زمن اضراب الأسرى المفتوح عن الطعام، ووسط حس ثقيل بالعجز وقلّة الحيلة، ينتاب الملتاعين الراغبين في إبداء التضامن الفعال، مع هؤلاء المقاومين بأضعف الاسلحة في مواجهة أشرّ المحتلين، تتجلى على هوامش هذا المشهد البطولي عدة صور مختلطة الالوان والابعاد، بعضها يثير الاعتزاز بصلابة هؤلاء الرجال الافذاذ، ويدعو الى الاطمئنان بأن لليل آخرا مهما طال، وبعضها يثير الالم، ويبث في الصدور مخاوف ازاء مآلات هذه الملحمة الانسانية والوطنية في آن.
نبدأ بالمثير للاعتزاز، والباعث على الثقة، وفق ما تتلوه هذه المشاركة الواسعة في الاضراب عن الطعام، من جانب نحو 1500 اسير من مختلف الفئات العمرية، وهم في ازدياد، علماً بأن أياً من الاضرابات السابقة لم تكن بهذا الاتساع، ولم تكن ايضاً جماعية بطبيعة الحال. كما يعتبر تنظيم الاضراب والاعداد له، ومن ثم الوقوف على رأسه من جانب قادة بارزين من الحركة الاسيرة، اشارة قاطعة الدلالة على ان جذوة الكفاح الوطني ما تزال متقدة، حتى وراء القضبان وفي عتمة الزنازين.
غير ان من المؤسف حقاً ان هذا الاضراب ليس شاملاً بالمعنى الوطني. فبقدر ما كان متوقعاً الا يشمل الاضراب كل الاسرى، وبعضهم مرضى ومتقدمون في السن، بقدر ما كان مؤلماً ان تتقدم الحسابات الفصائلية، وهي احدى اشد امراض الحالة الفلسطينية القائمة، على الحسابات الوطنية، حيث آثرت بعض الفصائل، وعلى رأسها حركة حماس عدم المشاركة، الا بعدد رمزي قوامه احد عشر معتقلاً (ربما بمبادرات فردية). الامر يعيد التذكير بالمدى العميق الذي بلغه جرح الانقسام الشائن، منذ ان فتحته الحركة المجاهدة في الجسد الفلسطيني المثخن، قبل عشر سنوات.
من الواضح ان هذا الانقسام في اوساط الحركة الاسيرة، هو امتداد طبيعي للانقسام الاكبر بين مرجعيتين ورؤيتين، بلغت احداهما نقطة اللاعودة، وان تداعيات هذه الحالة المديدة، عكست نفسها على الشارع الفلسطيني الذي لا يبدو بكامل عافيته الوطنية، ونحن نرى مظاهر الحد الادنى من الفعاليات التضامنية، التي نرجو الا تظل باهتة هكذا بعد مسيرات امس، ادنى من طموحات خيرة المناضلين المراهنين على استنهاض الحالة العامة من سباتها الطويل، اعتماداً على أضعف الاسلحة المتاحة لهم، وهي المقاومة بالأمعاء الخاوية ومقارعة الموت البطيء.
على الجانب الآخر تبدي اسرائيل كعادتها عدم اكتراث بهذا الاضراب، وتسعى الى كسره بالتجاهل والازدراء، من خلال عزل قادة الاضراب، ونقلهم من معتقل الى آخر، وبث الاخبار الكاذبة عن تراجع البعض، ومنع زيارات المحامين، والتعتيم على ما يجري في الاقبية والزنازين، وغير ذلك الكثير مما ابدعته العقلية الفاشية من صنوف تعذيب وترويع، احسب انها كانت متوقعة سلفاً، وانه قد تم اخذها مسبقاً بعين الاعتبار من قِبل منظمي الاضراب، قبل ان يشرعوا بالامتناع عن تناول اول وجبة طعام.
غير ان احقر ما بدر عن هؤلاء الفاشيين من لؤم وسادية مفرطة، مشهد المستوطنين وهم يوقدون الفحم بالقرب من اسوار بعض المعتقلات، يهزجون ويتناوبون على شواء اللحم في الهواء الطلق، لعل رائحته تزكم انوف المضربين عن الطعام في مهاجعهم الموحشة، وتثير لديهم مزيداً من الحس بالجوع، وتضاعف الألم عند من لا يتناولون غير الملح والماء، وهو فن من فنون تعذيب الآخر، والإمعان في ايذائه، على نحو لا تتفتق عنه عقلية الشيطان، فما بالك ونحن نتحدث عن حثالة بشرية وضيعة؟.
ربما كل هذا الاسلوب بتعذيب الآخر والتلذذ بسحقه غير مسبوق، ولا مثيل له حتى في زمن الحصارات التجويعية خلال حروب القرون الوسطى، حيث لم تتطرق له الا قلّة من المؤرخين، الذين تحدثوا عن اضطرار القوم المحاصرين إلى اكل القوارض والنعال عندما اشتد عليهم الجوع. غير ان لنا مثالاً مشابهاً جرى قبل اكثر من عام، عندما اضطر اهل بلدة مضايا في القلمون السوري، اكل اوراق الشجر، فيما كانت ميليشيا حزب الله تضرب طوقاً من الحصار، فيما راحت كوادر من هذه الميليشيا تقيم حفلات "الهش والنش" وتبالغ في اقامة المآدب، تعذيباً للجوعى من الاطفال والنساء، وفق ما نشرته مواقع التواصل الاجتماعي عما لذ وطاب في تلك الاثناء.
الغد 2017-04-28