رؤية جلالة الملك للتعليم والحاجة للتنفيذ
تمثل الورقة النقاشية السابعة لجلالة الملك الرسالة الأوضح والتعبير الأدق عن رؤية جلالته لتطوير منظومة التعليم في الأردن، ولم يعد مقبولا لكل الحكومات المتعاقبة منذ اليوم، ابتداء من الحكومة الحالية، التغافل عما يجب اتخاذه من سياسات وإجراءات لوضع الورقة موضع التنفيذ، ففي ذلك أكبر الأثر على مستقبل البلاد. بل أسمح لنفسي أن أدعي أن الحكومة التي لا تضع التعليم على رأس أولوياتها منذ الآن فصاعدا لا تستحق حمل المسؤولية.
أعادت ورقة جلالة الملك التركيز على لُب الموضوع في العملية التعليمية اليوم وهو ضرورة تطوير مهارات التفكير النقدي والاتصال وثقافة الحوار وقبول الآراء المختلفة، بدلا من النقاش الدائر حاليا حول عدد الآيات القرآنية في المناهج. وقد شددت الورقة على أنه لم يعد التعليم "يقتصر على القراءة والكتابة، بل يتجاوز ذلك إلى إتقان لغات عالمية أساسية، وامتلاك مهارات التواصل مع الآخرين ومبادئ العمل المهنية، والقدرة على التحليل والتفكير ليكون قادرا على المشاركة في إنتاج المعرفة". هل يستطيع أحد أن يدعي أن نظامنا الحالي ينتج المعرفة بشكل منتظم ولا يستهلكها فقط؟ وتضيف الورقة أن المطلوب "طلبة يعرفون كيف يفكرون، كيف يغتنمون الفرص ويبتكرون الحلول المبدعة.. لا يمكن تحقيق ذلك إلا بمناهج مدرسية تفتح أمام أبنائنا أبواب التفكير العميق والناقد، تشجعهم على طرح الأسئلة، وموازنة الآراء، تعلمهم أدب الاختلاف وثقافة التنوع والحوار".
أما الرسالة المهمة الثانية والواضحة فهي ضرورة الحسم وعدم التردد فيما يتعلق بتطوير المناهج، بل إن الإصرار على إبقائها كما هي ليس أقل من دمار للبلاد. "لقد بات التطوير ضرورة أملتها الظروف، بل متى لم يكن كذلك؟ التغيير يفرض نفسه، ويثبت ذاته، ويمضي غير عابئ بمن يخشونه". جلالة الملك كان واضحا في أن المطلوب التقدم وعدم التردد وعدم الانصياع لمن يريد إبقاءنا بقصد أو بدون قصد في الظلمات. "لم يعد من المقبول، بأي حال من الأحوال، أن نسمح للتردد والخوف من التطوير ومواكبة التحديث والتطور في العلوم". لم يكن الأردن بحاجة أكثر من اليوم إلى حكومة لا تتردد في اتخاذ السياسات والإجراءات اللازمة لإحداث ثورة بيضاء في التعليم وعدم السماح للتردد، خصوصا أنه غير مبني على حجج مقنعة، بالتلاعب في مستقبل البلاد.
واجهت الورقة أيضا الادعاءات التي تقول إن تطوير التعليم استجابة لإملاءات خارجية، بل إنها أعادت التركيز على اللغة العربية التي أهملت في الفترة الأخيرة. "لن يستطيع أبناؤنا أن ينهلوا من هذا التراث إلا إذا أحبوا لغتهم العربية وأجادوها". كما بينت الورقة أهمية تعليم "منفتح على كل الثقافات، يأخذ منها ويدع"، ونحن الذين نهلت حضارتنا في الماضي من الحضارات الفارسية واليونانية والبيزنطية وغيرها، فما بالنا نتصرف اليوم كأننا نعيش في جزيرة وحدنا؟
هذا مشروع طويل الأمد وسيحتاج إلى جيل أو جيلين حتى يتحقق المنشود، والعديد العديد من الحكومات المتعاقبة. المطلوب أن تلتقط الحكومة إشارات جلالة الملك بوضوح، وأن لا يتم وضع الورقة على الرف كغيرها في الماضي. من يريد التطوير لن يفيده التردد. وإن كان يحلو للبعض الإصرار على الإقامة في منازل الأمس، فإن البلد لا يحتمل الاستمرار في النهج التعليمي التلقيني الجامد الذي لا يؤسس لمستقبل زاهر. ليس أوضح من رسالة رئيس السلطة التنفيذية لسلطته في الطلب منها عدم التردد وإضاعة المزيد من الوقت. فأبناؤنا وبناتنا يستحقون منا أكثر من ذلك، ولن يغفروا لنا الاستمرار في سياسة الطبطبة والتلكؤ والخوف والتردد في ولوج هذه المعركة، فهي ليست معركة سياسية، كما يريدها البعض، بل معركة وجودية بامتياز.