أول أيام النكسة!
وصلنا البيت، كان بلا باب.. وكانت الأشياء داخله منثورة هنا وهناك..وكان ثمة قطة ماتت غرقا في زير الماء، أما أرنبتنا، فقد أصيبت بشظية في قدمها!!
وكذلك كان شأن النباتات البيتية التي كانت تحرص على زراعتها أم الفتى.. لقد تيبست بعد ستة أيام من العطش.. والهزيمة!
وكان أول ما طلب الحاكم العسكري الجديد من «رعاياه» أن يفعلوه: رفع الرايات البيضاء على البيوت، واغلب الظن ان الدافع وراء هذا الطلب ليس إعلان الاستسلام الذي كان لسان حاله يغني عن لسان مقاله، ولكنها الرغبة في الإذلال ليس أكثر..!!
ومن الكوميديا السوداء التي لم يزل الفتى يذكرها جيدا، أن بعض أهالي المخيم لم يجد راية بيضاء يرفعها غير مزق من ملابسه الداخلية، وبعض من لا يجد شيئا من هذا رفع «خرقة» زوجته، وهي منديل طويل من القماش الأبيض تضعه النساء الفلاحات على رؤوسهن، كما كانت تفعل أمي!
مكثنا حبيسي البيوت أياما، بدأ الحكم العسكري خلالها بممارسة مهام السيادة ولعل أولها كان استقطاب الجواسيس، أو قل ربما استيعابهم وإعدادهم، فلا أظن إنه واجه مشكلة حقيقية في الاستقطاب، بل في الإعداد والاستيعاب، وكانت أكثر مهماتهم سرعة ارتداء «أكياس الخيش» مع ما تنطوي عليه هذه المهمة من احتقار وقذارة!
بدأ الحكم العسكري بجمع الرجال البالغين فوق سن 15 أو 16 ـ لا أذكر ـ في ساحة المركز الأمني الذي بناه الانجليز وكان مقرا للشرطة الأردنية ثم الإسرائيلية (والآن الفلسطينية) ودفع بالجموع كي يمروا من أمام «كيس الخيش» البشري، حتى إذا مر شخص مشبوه على وجه من الوجوه أومأ «الكيس» بإيماءاته المتفق عليها، ليؤخد هذا «المشبوه» إلى حيث التحقيق والتدقيق وعمل اللازم!! ولم يتسن لي شخصيا المرور بهذا الاستعراض، لكنني طالما سمعت الكبار يتحدثون عن الكيس، ومن يقف يرتديه، وغالبا ما عرف الكثيرون هوية المتخفي بالكيس فاتقوه.. وتجاهلوا إنهم كشفوا هويته!
وسبق هذا بالطبع، جمع كل ما يمت إلى السلاح ـ على قلته وندرته ـ بصلة حتى ولو كان بنطالا أو معطفا يشتبه بانتمائهما إلى عالم «الكاكي»!!
وشيئا فشيئا، بدأت الحياة تعود إلى سابق عهدها، وبقي منع التجول مفروضا إلى مغربها.. وظل هذا النمط سائدا إلى وقت طويل، حين بدأت مرحلة غير مسبوقة من التطبيع بين سلطة الاحتلال (جيشا ومجتمعا وشعبا) والشعب الذي وقع عليه الاحتلال!!
حينما دخل الجنود اليهود إلى المدينة.. وخرج الكثيرون إلى أسطح المنازل للترحيب بهم ظنا منهم إنهم عراقيون.. كان رد الجنود على الترحيب إطلاق الرصاص عليهم وقتلهم بدم بارد دون إنذار، مع إنهم كانوا عُزلا من السلاح.. ويبدو ان هذا الموقف الترحيبي الاحتفالي بالاحتلال ظل كامنا في أعماق البعض، حتى بعد ان عرف ان القادمين لم يكونوا جنودا عراقيين جاءوا للتحرير والإنقاذ، وتلك قصة صادمة أخرى، ربما لم يتحدث بها أحد بعد.
الدستور 2017-05-04