سويسرا الأردنية
اعتقدت للوهلة الأولى أنه مشهد من جبل لبنان، لبنان الأخضر كما تغنى به وديع الصافي، وكما وشحت جماله فيروز بمخمل صوتها .دققت في الصورة فاعتقدت أن المشهد من إيطاليا التي تنضج بياضها شمس المتوسط فيصبح وجهها كمشمشة في تموز، خاصة أن صديقتي التي أرسلت لي الصور كانت عائدة من زيارة لإيطاليا، بلد دانتي ومايكل انجلو وليوناردو دافينشي الذي أذهل البشرية بابتسامة الموناليزا، ورسم العشاء الأخير للسيد المسيح وحوارييه قبل أن يخونه الاسخريوطي.
قالت: لا لبنان ولا ايطاليا ولا حتى سويسرا .هذه الصورة لجبال وسفوح عجلون .عجلون نفسها، جبالها الخضراء في كل الفصول، اشجارها المعمرة، احراشها، غيمها الازرق ، مطرها الكريم واهلها الاكرم..استطردت تصف كم تمتعت عائلتها تلك الجمعة التي امضوها في جبال عجلون .كانت تتحدث بفرح لكانه علق بها من شجرة جلسوا في فيئها ومن ضحكات اطفالها الذين خرجوا من قبضة الاسمنت في المدينة الى فضاء حلّقوا فيه حتى اعلى سقف في طفولتهم .
قلت لها : أعرف، أعرف .اسمعي ما كتبت عن شعوري في احدى زياراتي والعائلة الى عجلون :
في الطريق تتسع حدقة العين كلما امتد السهل . وعلى يسارك قمم جبال وتلال وبين كل جبل و جبل سهل . للقمم شعر حريري من شجر، ولا تدري كيف نبتت البذرة في قلب الصخرة وتمددت على جسد التراب في السهل . هل ثمة من غرسها أم أن الطير حملها من موطن الى موطن لتنبت الحياة في الصخر الأصم .
كلما سارت بك السيارة تتفتح روحك على آيات من الجمال شرط ألا تسرع . تذوّق الهواء، تمتّع بمنظر الحجر كيف نحتته الريح اشكالا جميلة حية، قفْ حين ترى عرق الفلاح كيف أثمر سلالاً من الرمان والباذنجان والعنب و التوت والتفاح . الفاكهة والخضار طازجة كوجه الصبح، قريبة من أمها الشجرة، وهل ثمة لقمة أو حبة خوخ او عنقود عنب أحلى من يد الأم ؟ أنت الآن في منتصف الطريق تحنٌّ الى فنجان قهوة فترى على يمينك اكشاكا تجلس مبتهجة على تلة تغتسل بالريح النقية . يؤشر لك فتى برائحة القهوة . توقفْ أنت الآن بانتظار أول رشفة، والسيجارة مهما رفعوا سعرها تبقى رفيقتك التي لا غنى لمزاجك عنها .
تمضي خلف ضحكات تفتقدها طوال الأسبوع، ضحكات شجر و حجر و هواء غير ملوث بالبنزين و وثرثرات المنافقين . الجمال في الطريق لا يكذب، في المدينة ما أكثر كذب الكذّابين . تخرج من بين أعمدة التاريخ في جرش لتدخل تاريخا آخر، قرى مغروسة منذ آلاف السنين، يتبدّل البشر، تموت حيوات ولا تموت اشجار ولّدت اشجارا وحجارة بنت حضارات . ما أشهى رائحة التاريخ ونكهة الطيبة في وجوه أناس حين تسألهم عن الطريق الى عجلون . تسير على مهل حتى لا تفوتك قطعة جمال، عبق شجر، صنوبرة مالت على كتف صخرة .
تشاهد من بعيد القلعة، قلعة عجلون، أنت الآن في حضرة التاريخ، وفي حضن الطبيعة، طبيعة الأردن التي نعشق، مرتفعا عن سطح البحر وعن سطحية حياة المدينة التي جعلتك رقماً مجرد رقم .
قلت :كثير من الناس لا يعرفون جمال طبيعة بلدنا. اغلبهم لم يذق طعم عجلون ولا مادبا ولا الكرك ولا الغور، هل تعرفين لماذا ؟ لأن من يستطيع ان يتنزه في بلدنا هم الطبقة الوسطى ،وهذه الحمد لله اختفت! أما النخبة فانها تتنزه في لبنان وسويسرا وايطاليا . وهي نفس البلاد التي اعتقدتُ أن الصور منها !!
الدستور 2017-05-05