عالم بلا بديل
الدلالة السياسية المباشرة التي عنت أوروبا في انتخاب ماكرون هي وقف المد الشعبوي اليميني الخطير الذي يهدد وحدة أوروبا وثقافة الانفتاح والتسامح. لكن دلالات أخرى أعمق وأبعد حملتها الانتخابات حول الأحزاب والبرامج والسياسات والمفاهيم في القارة العجوز وحول العالم ايضا.
بعد انهيار المعسكر الشرقي بقيت الخريطة السياسية في أوروبا على حالها موزعة بين يمين الوسط ويسار الوسط مع تعديل طفيف لدى اليسار باتجاه اكثر ليبرالية توافقا مع العولمة والوحدة الأوروبية وعجز الموازنات عن تلبية مبدأ الضمانات الاجتماعية لكل فرد "من المهد الى اللحد" وأطلق على هذه الرؤية اقتصاد السوق الاجتماعي تمييزا لها عن اقتصاد السوق الحر. واستمرت هذه الاحزاب في تمثيل الشرائح الشعبية في المجتمع مع حصة متواضعة ومتراجعة باستمرار لليسار الأكثر جذرية. وتعديل طفيف لدى اليمين يراعي دروس الأزمة المالية والاقتصادية الحادة العام 2008 حيث اتضحت مخاطر انفلات السوق والفساد والتجاوزات التي أودت بالمؤسسات المالية والاقتصاد.
لقد بقيت الاحزاب التاريخية التي تمثل هذين التيارين تتسيد المشهد ( الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة والعمال والمحافظين في بريطانيا والاشتراكيين والديغوليين في فرنسا وهكذا..) وتتناوب على الحكومات وفقا لرؤية وبديل معروف سلفا للجمهور يعاد ويكرر في اي انتخابات. لكن هذه الخريطة المألوفة والمستمرة بدأت تسوح معالمها الآن كما رأينا في الانتخابات الفرنسية وقبلها الهولندية وقبلها الأميركية بفعل عاملين اقتصادي وثقافي، فالاقتصاد الرقمي والعولمة وثورة المعلوماتية تواصل فعلها الى مدى وأماكن لا يمكن توقعها، وبالمقابل اتساع الهوة الساحق والأزمات والحروب في العالم الثالث والفشل الاقتصادي الذي زاد الهجرات الى الغرب وكأنه أمام هجوم على مدينة النعيم من محيط الفقر والبؤس مصحوبا بردّة ثقافية وفكرية امتدت الى مجتمعات المهاجرين في الغرب وأنتجت في نهاياتها القصوى على المستوى الاسلامي ظاهرة الارهاب. وأدى ذلك الى تراجع ثقافة الانفتاح والتسامح في الغرب وانتعاش الميول الشوفينية التي وصلت حد العداء للوحدة الأوروبية، وهو ما اعطى دفعة للقوى اليمينية المتطرفة التي كانت تقف على الهامش المعزول للحياة السياسية.
لكن غير التطرف اليميني فان الأغلبية الساحقة المعتدلة التي كانت تتوزع على يمين ويسار الوسط ولم تذهب الى اليمين المتطرف وجدت نفسها تائهة بدون بدائل ولذلك أمسكت بأي ظاهرة بديلة تقدم نفسها خارج المحورين التقليديين ولو انها في الحقيقة دون برنامج جديد حقيقي وهو بالضبط ما مثله ماكرون في فرنسا، الشاب الذي ظهر قبل 3 سنوات فقط بدون آلة حزبية عريقة أو تاريخ. ونستطيع أن نتذكر ان ترامب لم يكن من الحزب الجمهوري بل فرض نفسه من خارجه بقوة انحياز الرأي العام لخطابه الخارج عن المألوف الذي يدغدغ الهواجس والمشاعر المضمرة وهو لا يمثل رؤية وبرنامجا بل مجموعة من المواقف والادعاءات الهوجاء. وكما يظر الآن فهو غير قابل للتوقع يتنقل في المواقف وفق اعتبارت آنية وتحت تأثيرها.
ليس محددا لصالح من وماذا يتراجع التياران السياسيان التاريخيان، فلم ينضج بديل ثالث جديد برؤية سياسية اقتصادية اجتماعية جديدة ولم يظهر منظرون لهذا البديل وقد وصل الجمهور اجمالا الى مرحلة العزوف عن البديلين التاريخيين المتوفرين قبل ان ينضج ويظهر بديل تاريخي ثالث. واليمين المتطرف بالنسبة لشعوب اوروبا كما تأكد ليس خيارا، ولذلك يمكن لشخصيات طارئة أو أحزاب تشكلت على عجل أن تحصد أصوات الناخبين. من الواضح أن الأحزاب التاريخية أمام مأزق والمأزق الأكبر هو أن المرحلة لا توفر حتى الآن بديلا.
الغد 2017-05-12