لعب مع الترجمة الآليّة..!
استطاعت التكنولوجيا، على سبيل المثال، أن تحل محل الخطاطين إلى حد كبير. ولم يقتصر الأمر على رسم حروف الأبجديات الجامدة، مثل حروف الإنجليزية، بدقة مثالية بواسطة الحواسيب، وإنما أصبحت الحواسيب تتعامل مع خط روحاني ونابض، مثل الخط العربي. ومع أن عمل الحاسوب في الخط العربي يظل فاقداً للروح والتكوينات التي تجعل كل خطاط متمايزا بذاته، فإن العارف بفن الخط العربي يستطيع أن يستخدم الحروف الجاهزة من مختلف الخطوط الحاسوبية، ويعيد تركيبها على ذوقه باستخدام برامج التصميم، وصنع شيء معقول من ذلك.
لكن الآلة، مهما أصبحت بارعة، لن تستطيع أن تكتب شعراً أو قصة أو مقالة رأي. وفي الحقيقة، لم نعرف عن محاولات لجعل الحواسيب تقوم بعمل الروائي والشاعر، لكننا نتعامل مسبقاً مع محاولات تشغيل الآلات محل المترجمين. والتجربة لا تخلو من الطرافة. فالحاسوب لا يمكن أن يمتلك القدرات الإدراكية القادرة على تمييز السياقات مثلما يفعل الوعي البشري. وقد يحاول المترجمون الاستعانة ببرامج الترجمة، لكنهم سرعان ما يكتشفون أن أفضل ما تستطيعه هذه البرمجيات هو ترجمة المفردات وتزويدهم بالبدائل في اللغة الهدف. وهو عمل كان يؤديه القاموس الورقي، لكن الفارق هو في السرعة والسهولة. أما عندما يأتي الأمر إلى النصوص، فالحاصل مخيب غالباً، خاصة مع لغة مليئة بالمترادفات والخيارات مثل العربية.
جربتُ، مثلاً، أن أطلب من مترجم "غوغل" ترجمة بيت من قصيدة "لامية العرب" للشنفرى: "ولي دونكم أهلون سيدٌ عملسٌ/ وأرقط ُ زهلولٌ وعرفاء جيألُ". وقد دخل مترجم غوغل الآلي في الحائط تماماً أمام هذه اللغة، واقترح الترجمة: And I will not judge you، التي تعني "وأنا لن أحكم عليك". ثم جربت أن أختبر المترجم الآلي في ترجمة جملة من قطعة أحمد حسن الزيات "ليالي الحصاد"، تقول: "كان صوت أمينة الوتري الرخيم يموج لذيذاً في مسمع الليل المقمر الساجي". وترجمها البرنامج إلى الإنجليزية:The sound of the wiry omelet winked sweetly in the sound of the Sagi night. وطلبت منه –من باب استكشاف حماقته- أن يعيد ترجمة عبارته نفسها إلى العربية، فاقترح ما يلي: "صوت العجة سلكي وينكلي الحلو في صوت ليلة ساجي"!
هذر محض! والأمثلة على كلالة الترجمة الآلية لا تنتهي، لكن العاملين في البرمجيات لا يكفون عن محاولة تطوير برمجياتها أيضاً. ومع ذلك، يدرك المشتغلون في الترجمة تماماً أن حلول الآلة محل المترجم سيتحقق فقط عندما –وإذا- تتم صناعة روبوتات بكامل المواصفات الإدراكية والعاطفية والتعبيرية البشرية. وفي ذلك الحين، سيستطيع الروبوت "الروائي" أن يكتب الرواية نفسها بعدة لغات مرة واحدة. ولِم لا؟
في الخبرة البشرية مع الترجمة، يتفاوت المترجمون أنفسهم في القدرة على استبطان النص واجتراح السبل لإعادة إنتاجه باللغة الهدف. وتعمل في ذلك عوامل تتعلق بالتدريب الإدراكي والنقدي واللغوي، ونوعية مخزون المفردات والبدائل، والذائقة والحس الشخصي. ومثلما يستخدم الشاعر مفردات شفافة ومتساوقة إيقاعياً للتعبير عن العاطفة أو المشهد بطريقة مغايرة للكلام العادي، كذلك يستخدم المترجمون المتاح من الخبرة والموهبة لإنتاج نص غير حرفي ولا مبتذل. وفي ترجمة الأدب بشكل خاص، لا يستطيع الكثيرون من المترجمين البشريين أنفسهم، إنتاج نص فنيّ ومحرّض إذا لم يكونوا على إلفة مع عناصر العملية الإبداعية، ويتمتعون بعلاقة بالغة الود مع اللغة.
كما تظهر الأمثلة الواردة أعلاه لعمل الترجمة الآلية، يتساءل المعنيون عن جدوى برمجيات الترجمة، إذا كان يصعب في الواقع "تعليم" الترجمة للبشر إذا لم يكن لديهم استعداد فطري لممارستها، تماماً مثل الموسيقى. لكن هذه البرمجيات، بما هي عليه الآن، تصلح لتجريب الخروج من الرتابة، والتحاور مع المترجم الآلي لبعض الترويح عن النفس والضحك من سذاجة الآلة.
الغد 2017-05-14