مشكلة اليقين وعدَمُه..!
عندما يصف المراقبون منطقة الشرق الأوسط هذه الأيام، يقولون إن عنوانها هو "عدم اليقين". وهم يقصدون بذلك أن الناس هنا ضائعون مرتبكون، لا يعرفون ما قد تسفر عنه اللحظة التالية واليوم التالي. والسبب هو تحرك الأحداث بآليات عصية على التنبؤ والتفسير، وخارجة عن إرادة الأفراد الذين يعانون من تداعياتها بقليل من الاختيار -أو بدونه.
لكن هذا المحيط من عدم اليقين ينطوي على مفارقة. إننا نسمع أو نقرأ ما يقوله كثيرون، فنرى كل واحد منهم تقريباً يعرض "معرفته" على أنها يقينية مُطلقة، لا يمكن أن يأتيها الباطل من أي جهة. وليت الأمر يقتصر على الشؤون الصغيرة! إنه يشمل أشياء كبيرة حقاً، بدءاً من تفسير الأحداث ووجهاتها في محيط ضبابي تماماً مثل الشرق الأوسط الراهن، وانتهاء بأمور كبرى شغلت العقل البشري منذ تكوّن الوعي الأول –وما تزال- مثل تفسير الكون نفسه.
يعني اليقين المطلق بهذه الطريقة أن صاحبه يرى نفسه المصيب الوحيد فقط، بينما كل الآخرين مخطئين. ولا يطرح هؤلاء اليقينيون أفكارهم باعتبارها قابلة للمفاوضة ويمكن تعديلها، وإنما يغلقون عقولهم عليها ولا يسمحون لشيء بمسها أو لنور بالاقتراب منها. وتتجسد تداعيات هذا اليقين في مستويات من ردود الفعل، من النفور الشخصي من المحيطين الذين يقترحون حقائق مختلفة، إلى كراهية ومعاداة أيّ وكل نوع من التعدد، بل وحمل السلاح وخوض حرب ضد طوائف وأديان أو أيدلوجيات كاملة، باعتبارها خاطئة جملة وتفصيلاً ويجب إعدام أصحابها.
من المفروغ منه أن ادعاء المعرفة اليقينية المطلقة هو العداء المطلق للعِلم القائم على الشك والتجريب. ولولا الشك لما تطورت المعرفة، ولما كانت "الحقائق" في حالة حركة لا تتوقف لتخلي مكانها لحقائق جديدة. لكن اليقين الأعمى يجمّد الأشياء ويصنع وضعاً غير قابل للإصلاح بالحذف أو الإضافة. ومن أوضح وأسوأ تجسيدات إنكار وجود حقائق بديلة، ما تعرضه الأيديولوجيات والحركات المتطرفة في منطقتنا، والتي يصل بها اعتقادها بالصلاح الذاتي إلى حد استهداف كل آخر بالإقصاء الفيزيائي.
من المفهوم أن يكون "اليقين المطلق" سمة للمتطرفين. لكن عدواه كثيراً ما تصيب المثقفين والباحثين، من مدَّعي الموضوعية. ولا يعرض هؤلاء اقتراحاتهم على أنها "حقائق" مؤقتة يمكن أن تتغير في اللحظة التالية لأي سبب، ولا هم يقبلون بحقائق بديلة مدعومة بتساوقها المنطقي الخاص. إنهم يزعمون لأنفسهم امتلاك المعرفة الوحيدة الصحيحة بأمور جدلية بطبيعتها، أو يستحيل التوصل إلى نتيجة قطعية فيها بسبب تعقيدها المفرط وكثرة المُداخِلين. ولأن هؤلاء يؤثرون في الآخرين، فإنهم يكرسون الاستقطاب بحجب البدائل التي يعرفونها عن جمهورهم وحقنِه بـ"اليقين"، مثل أي متشدد.
لعل سبب "عدم اليقين" السادر في منطقتنا هو إفراط "اليقين" عند الأفراد والجهات. وعلى سبيل المثال، يرى "داعش" أنه يعرف وحده الحقيقة والصواب الأوحدين اللذين لا يعرفهما كل آخر، حتى المسلمين العاديين من نفس طائفته. وبذلك، يصبح كل مَن ليس داعشياً عدواً يستحق الإبادة. وعلى مستوى آخر، يدعي كل من السُّنة والشيعة امتلاك الحقيقة ويرفض "حقيقة الآخر"، فيتحاربون. ويرى بعض هؤلاء وهؤلاء أن أتباع الأديان الأخرى ضالون ويجب إقصاؤهم. وعلى مستوى أدنى، يعتقد معظم الأفراد بصواب فهمهم وطيش الآخرين، فلا يأخذون منهم ولا يُعطون –أياً كان مستوى علاقتهم بالمعرفة.
قد نكون في المكان الأكثر إصراراً في العالم على تسويق منظومات الفكر الجاهزة والمحزومة سلفاً، وفرض شرائها على الناس على علاتها باعتبارها يقينية مطلقة. وللأسف، تتضافر جهود كل المؤسسات السكونية والأصولية التي تكره الشك والأسئلة والحركة، وتخاف أن يطالها الاستنطاق والتغيير. وفي السياق، يتم ترويج النظم التعليمية والإعلامية والثقافية بهذه الشروط، لتعرض "حقيقة" واحدة وتعزل أي بدائل. ويشارك بعض المؤثرين من أصحاب الرأي بـ"يقينياتهم" في تكريس العصبيات، وخدمة الاستقطاب والانفصال.
العلاج الوحيد لـ"عدم اليقين" الذي يوصف به حالنا الجمعي هو استنطاق "اليقين" نفسه على كل مستوى. يجب أن نفسح للشك مكاناً في عقولنا، ونمنح أفكارنا فرصة للتفاوض والتعارف مع غيرها، على أساس أن المعرفة استمرارية ولا يمكن أن تكون مُعطى. وما لم نتخلص من "اليقين" أولاً، فلا فكاك من "عدم اليقين".
الغد 2017-06-01