غرابيب سود.. محنة المعرفة!
صحيح أنّه من الصعب الحكم على أي عمل فني قبل مشاهدته كاملاً، لكن هناك في بعض الأحيان مؤشرات وعلامات تكشف عن مستواه وقيمته الفنية ومحتواه المعرفي أو الفكري، منذ اللحظة الأولى، وهو ما ينطبق على مسلسل "غرابيب سود"، الذي يبث في شهر رمضان الحالي.
المسلسل من المفترض أنّه يتعرّض لظاهرة النساء الداعشيات، اللواتي تركن منازلهن وبلادهن والتحقن بالتنظيم من دول مختلفة من العالم، ويقدّم صورة درامية عن الأسباب والحيثيات والشروط التي دخلت في صناعة هذه الظاهرة.
لكن من يتابع المسلسل سيُصدم لحجم التسطيح والاستخفاف في "النص" الذي يحكمه، وفي هشاشة وغياب الموضوعية والدقة والحدّ الأدنى من المعلومات الصحيحة عن المادة المعرفية التي قام عليها العمل، وجرى بناء السيناريو وفقاً لها، وفي صميمها قصة "جهاد النكاح" التي فبركها الإعلام العربي، ولا تقوم على روايات حقيقية مقنعة.
الطريف في الأمر أنّ المسلسل يقدّم بوصفه مبنياً على قصص واقعية وحقيقية، وهو أبعد ما يكون عن التناول الحقيقي لهذه الظاهرة المركّبة، أي الداعشيات، وأقرب ما يكون إلى بربوغندا ممجوجة، تقوم فقط على هدف الشيطنة وذم الظاهرة، ويستند على تقارير إعلامية غير موثوقة، ولا دقيقة، قامت على منطق الشيطنة والدعاية الإعلامية نفسها.
على العموم، إحدى المهمات الرئيسية والفاعلة للفن عموماً والدراما خصوصاً تكمن في مواجهة التطرف والإرهاب وهذا التيار الخطير، لكن باختصار ليس بهذه الطريقة، إنّما بقدر جيد من المعرفة بالظاهرة وتفكيكها وإدراك ديناميكياتها الذاتية وخطابها الفكري وحججها ونقد ذلك بأسلوب درامي فنّي، ما يحتاج قبل كل شيء أن يتأسس على بحث علمي رصين حقيقي، وهو العمل الذي كان مفقوداً في المسلسل.
كنتُ قد ألفت (مع الصديق حسن أبو هنية) كتاباً (نُشر مؤخراً عبر مؤسسة فريدريش أيبرت في عمان) عن الظاهرة نفسها بعنوان "عاشقات الشهادة: النسوية الجهادية من القاعدة إلى الدولة الإسلامية"، وتناولنا فيه تطوّر استدخال النساء في هذه الجماعات وخطابها – أي الجماعات- عن النساء، والتطورات التي حدثت خلال الفترات المتلاحقة. وقدّمنا في الجزء الثاني عشرات القصص المفصّلة لحالات حقيقية لنساء عربيات وغربيات التحقن بالتنظيم، أو يحاكمن على خلفية الإيمان بأفكاره في بلاد عربية مختلفة.
المهم في الموضوع، مثل هذه الروايات الموثقة في الكتاب، كان يمكن أن تكون مادة لعمل درامي فعلياً، لكنه جاد، يؤنسن الظاهرة ويدرسها بصورة موضوعية، عندها سيكون أكثر تأثيراً وإقناعاً ومفيداً أيضاً في معرفة كيفية التعامل معها، أمّا عزلها – أي ظاهرة الداعشيات- عن السياقات المجتمعية والسياسية والثقافية المحيطة، والتعامل معها وكّأنها "مخلوق فضائي" شرير، فهذا أمر محبط حقّاً!
للأسف الأمر نفسه ينطبق حتى على الجزء الأكبر من الإعلام العربي في التعامل مع ظاهرة الإرهاب عموماً، والداعشيات خصوصاً، وهو ما لفتنا الانتباه إليه في كتابنا عند مقاربة الفرق الشاسع والواضح، معرفياً ومهنياً، بين تعامل الإعلام الغربي، بخاصة الأميركي مع ظاهرة الداعشيات هناك، والإعلام العربي المعلّب والرواية الأمنية أو غياب المصادر الدقيقة، بينما نجد في الصحف أو المواقع الأميركية تحقيقات مذهلة عن الحالات التي يتم تناولها.
قد لا ألوم القائمين على المسلسل فموضوع الإرهاب نفسه ومكافحته تحوّل إلى "بزنس" اليوم، يدر ملايين الدولارات، ويتسابق عليه الجميع، عقد مؤتمرات، مسلسلات، كتابات، وبرامج مكافحة، كلها تدور في الحلقات المفقودة نفسها!
في كتاب الداعشيات أشرنا إلى العديد من النماذج العربية والغربية المتعارضة تماماً مع الصورة النمطية المقدمة عبر الإعلام العربي، ويكرسها هذا المسلسل، يمكن أن نطرحها لاحقاً في "الغد" على حلقات.
الغد 2017-06-02