القيم من المطبعة إلى الإنترنت
تشكل الجدالات والتفاعلات الناشئة حول ما يُتداول في شبكات التواصل الاجتماعي حالة دراسية خصبة لنفكر في قيمنا الناشئة والمنقرضة؛ ذلك أنه تصاحب الشبكية (يفترض) قيم جديدة، وتنحسر ثقافة وقيم تشكلت حول المطبعة. ما من تقنية أو موارد تنشأ إلا وتتشكل معها قيم وثقافات وأفكار وفلسفات جديدة وما من تقنية أو موارد تنحسر إلا وتنحسر معها قيم وثقافات وأفكار، لذلك نصف التاريخ الإنساني بالموارد والتقنيات الأساسية التي كانت تسود، فنقول مجتمع العصر الحجري، أو الحديدي أو البرونزي أو الزراعي او الصناعي، أو نصف الثقافة والعلاقات والمجتمعات بالقول الرعي أو الصيد أو الزراعة أو الصناعة أو القرى أو المدن..
هكذا يفترض أن نتلمس ما يجب أن ننشئه من قيم وأفكار وما يجب أن نتخلى عنه، فما كان يقال في المجالس المحدودة يصير في الشبكة يتداوله جميع الناس في كل أنحاء الأرض بلا قيود، ولم يعد السؤال فقط ما يقال وما لا يقال لكننا أيضا ننشئ ثقافتنا وعقلنا الباطن ووعينا الجديد المتشكل، فلم يعد ممكنا أن ننكفئ حول ما نتواطأ على قوله "بيناتنا" وما نقوله حين نكون مع الآخرين، لم يعد مجال سوى أن نواجه انفسنا بوضوح، ونقرر ما يجب وما نحب أن نكون وما لا نحب وما لا يجب. ثقافة الشبكية ليست ما نقوله حين نكون وحدنا وما نقوله حين نكون مع الآخرين لكنها أن نقدم أنفسنا بوضوح، وحين لا يكون هذا التقديم ملائما فليس الحل أن نخفي أنفسنا لكن ان نغيّرها. لم يعد السلام والانسجام ممكنا اليوم في ظل الشبكية سوى أن يكون الوضوح الذي ندركه لذواتنا هو نفسه الوضوح الذي يدركه الآخر عنا، لم يعد ممكنا أن نفهم ذواتنا على نحو مختلف عما نريد أن يفهمه الناس عنا.
لقد تغيرت المجتمعات والمدن والأعمال والعلاقات الاجتماعية والسياسية تغيرا كبيرا وهائلا منذ حلّت الثوة الصناعية، هذه المدن والشوارع والجسور والدول الحديثة والأعمال والمهن والأسواق والأفكار والفلسفات والفنون..، لم تكن قائمة قبل الآلة البخارية، لم يكن من ذلك شيء قبل القرن الثامن عشر، وكانت الأمم قبل ذلك ولآلاف السنين تنشئ مدنها وقراها وحياتها ومواردها وثقافتها على نحو مختلف عما نعيشه اليوم اختلافا كبيرا، فالدولة الحديثة التي تشكلت حول "الصناعة" نظمت المدن والعلاقات والثقافة والمهارات والمعارف تنظيما جديدا وصرنا نعي ذاتنا وحياتنا وفق ما أمكن للدولة الحديثة أن تنشئه.
واليوم فإن الشبكة تبطل كل ما أنشأته المطبعة، فلم يعد في مقدور السلطة أن تحدد من يعرف ومن لا يعرف وما يجب أن يعرف وما لا يجب أن يعرفه كل شخص.. انتهت المقولة الأوليغاركية المتعجرفة "المعرفة على قدر المقام"، ولم تعد السلطة قادرة على اشتقاق الوعي المنظم لعلاقات الناس والمجتمعات والأفراد، لا مجال سوى أن يحدد الأفراد علاقاتهم ببعضهم وما يريدونه وما لا يريدونه من بعضهم بعضا.
تهبط التقنيات بلا توقع ولا استئذان، هكذا جاءت الشبكية ومن قبلها الثورة الصناعية، لكن الاستجابات الاجتماعية والاقتصادية لا تتشكل تلقائيا، ولا تنشأ في مسار واحد متوقع، ولا بد من عمليات وعي ومراجعة طويلة وصريحة، .. وأن نعترف أولا وقبل كل شيء أن "الثوابت" إنما هي ثابتة بفعل تقنيات وموارد ثبتتها، لكنها تصير متحولة ومنقرضة عندما تتلاشى روايتها المنشِئة.
لم يعد مجال في ظل الإنترنت سوى تقليل إن لم يكن إلغاء الفجوة بين ما نفكر فيه وما نقوله، فقد أصبحت زلة لسان أو عبارة تقال في المجالس والكواليس تتحول إلى مادة إعلامية يتداولها جميع الناس في كل مكان.
الغد 2017-06-17