رمضان سياسي جداً..!
في السنوات الأخيرة، اختطفت السياسة حتى العبادة والرياضة الروحية التي يمثلها شهر رمضان. وبعد أن كان السلام عنوان الشهر، أصبح الشهر الآن عَرضاً مكثفاً -ودموياً غالباً- للأزمة الطاحنة التي تُغرق سكان هذه المنطقة، وتفيض تداعياتها إلى كل مكان في العالم.
أفظع مظاهر تسييس رمضان هي استغلال المشاعر الدينية لتصعيد العنف الإرهابي في كل مكان، على أساس أن أجر "المجاهد" الصائم سيتضاعف أضعافاً إذا قتل الناس وفجر نفسه فيهم. ووفاء للمسار التصاعدي للعنف في رمضان، شهد هذا الرمضان إزهاق أرواح أعداد إضافية من الأبرياء، من أفغانستان إلى العراق، ومن الفلبين ومصر إلى لندن، بسبب رمضان.
بالإضافة إلى تصعيد القتل، يستغل المتطرفون الدينيون رمضان لتعميق الكراهيات والانقسامات الطائفية بين المسلمين أنفسهم، والعدوانية تجاه الآخرين. وفي هذا السياق، بث "داعش" يوم الاثنين الماضي رسالة صوتية بواسطة "التلغرام"، قال فيها الناطق باسمه، أبو الحسن المهاجر: "يا ليوث الموصل والرقة وتلعفر. بارك الله تلك السواعد المتوضئة والوجوه النيرة. فاحملوا على الروافض (يعني المسلمين الشيعة) والمرتدين وشدوا عليهم شدة رجل واحد". وقال أيضاً: "وإلى إخوة العقيدة والإيمان في أوروبا وأميركا وروسيا وأستراليا وغيرها. لقد أعذر إخوانكم في أرضكم فثبوا على أثرهم واقتدوا بصنيعهم في سورية وإيران والفلبين" خلال شهر رمضان.
وأيضاً، تشهد المنطقة الآن انقسامات حادة في الصف العربي على أساس اتهامات برعاية حركات إسلامية إرهابية وأخرى أضيفت إلى قائمة الإرهاب. ويترافق هذا الصدع في المعسكر السني نفسه مع تعميق الاستقطاب بين فرعي الإسلام، السني والشيعي، والذي أصبح عنوان العداوة في الإقليم، على حساب العداء القديم تجاه الكيان الصهيوني.
على صعيد آخر غير منفصل، تجدد في رمضان الأخير نفس الجدل حول حرية الأفراد في ممارسة الصيام، وهل هو شأن شخصي بين العبد وربه أم شيءٌ يجب أن يمارَس قسراً، انصياعاً للسلطة الاجتماعية والعرفية، أو حتى قانون الدولة. وفي الحقيقة، يمكن أن يشكل تدخل الدول في الرقابة على صيام الأفراد باروميتراً لقياس مدى جدية خطابها حول اعتناق نموذج الدولة المدنية. لكن استمرار معظم دول المنطقة في ملاحقة غير الصائمين قانونياً يؤكد هيمنة نموذج الدولة الدينية والبعد عن الدولة المدنية -حتى في تونس التي يُنظر إليها كرائدة لهذا المسار.
حتى في الدراما التلفزيونية، بدلاً من المسلسلات الرمضانية القديمة المريحة للنفس، مثل "صح النوم" و"فارس ونجود"، تركز معظم الاهتمام والنقاش هذا العام على مسلسل "غرابيب سود" الذي يتناول تنظيم "داعش"، أكثر التعبيرات قتامة عن الدين السياسي. وفي كل مكان أيضاً، ارتفع منسوب القلق في رمضان من احتمال استغلال المجموعات الإرهابية زيادة حركة الناس ونشاط الأسواق لزيادة ضحايا أعمالها الإجرامية. وهنا في الأردن، تعكرت الأجواء الرمضانية بقصة عن "دجاج فاسد". وبالإضافة إلى النقاش المحلي حول أدوار الأجهزة الرسمية والمواطنين في التفتيش على الالتزام الديني للأفراد الآخرين، أثار ذلك السؤال عن مدى القدرة على –والرغبة في- متابعة نموذج دولة القانون والدولة المدنية.
بطبيعة الحال، لا تقتصر هذه المظاهر على رمضان، لكن الشهر يعرضها بكثافة فقط. وتُظهر هذه الشواغل الطاغية كيف اختطف الدين السياسي كل شيء، بدءاً من تفاصيل الحياة الرمضانية، ذهاباً إلى تقويض محاولة "الربيع العربي" الذي كانت مطالبه مدنية ودنيوية بالمطلق: الخبز والعدالة والحرية، وكيف تحولت الوجهة تعسفياً إلى معركة دينية داخلية وخارجية. وأصبح الشاغل الأساسي والوحيد هو تعريف أدوار الدين في حياة الدول والأفراد وأي نسخه هي الأصلح. ويعيد ذلك إلى الذهن مشهد أوروبا الوسيطة، حين كانت الكنيسة والرعاع يستمتعون بتقطيع أوصال "الخطاة" في الساحات العامة، قبل أن يحل الأوروبيون بكلفة الدم سؤال العلاقة بين الدين والسياسة.
من الواضح أن هذه الثقافة كلها تحاول حل أزماتها بالمزيد من الأزمة. وبدلاً من خوض "صراع الحضارات" الذي ادعاه هنتنغتون بين الغرب والإسلام، وهو سيئ في حد ذاته، ينخرط الناس المضروبون على رؤوسهم في تأجيج صراع داخل-إسلامي دامٍ غير ضروري هم ضحاياه. ولا يقتصر أثر اقتحام الدين للسياسة على وقف التقدم الدنيوي الضروري وجودياً، وإنما يدمر المنجزات المدنية التي تحققت بشق الأنفس. وذلك مرشح للاستمرار، إلى أن تتحدد مناطق الدين والسياسة على أساس عملي، ويهتم كل بما هو له.
الغد 2017-06-18