دفن الكرامة في حاويات القمامة

المدينة نيوز – فهد الريماوي - : (الكناس رجل مهمته النظافة، ويحتقره اناس مهمتهم القذارة ) قول مأثور .
حين تسمح امة من الامم، او دولة من الدول، او مدينة من المدن بترك جزء من ابنائها ليعتاش على قمامة الجزء الآخر، تكون قد حكمت على نفسها بالخروج من جنائن الحق والعدل والحس الانساني، للاقامة في ادغال الظلم والعسف والبلادة الوحشية•
وحين تضطر طوابير الجياع واصحاب الامعاء الخاوية، للمثول كل صباح بين يدي صناديق الزبالة، يصبح من حق الحاكمين والمترفين الفوز بأوسمة الخزي، والاستئثار بميداليات العار، والنوم على وسائد الشوك، والجلوس على فوهات الخطر•
وحين تقبل الشعوب التقاط ارزاقها من حاويات الفضلات والنفايات، وترتضي الدنية بدل المنية، وتقتات الفتات عوض الطيبات، تكون في واقع الامر قد بلغت قاع الانسحاق والانهزام، وهبطت من الحالة الآدمية الى حضيض الدونية، وادارت ظهرها لمقولة ابي ذر الغفاري: "اني لاعجب من رجل لا يجد قوت يومه، ولا يخرج في الناس شاهراً سيفه "•
غابت عن عالمنا العربي مفاهيم العدل والرأفة والمساواة، وتقهقرت مشاعر التراحم والتعاطف والاخاء، فيما تسعرت شهوات الامتلاك والاستهلاك، وتغولت قيم التظاهر والتفاخر والمباهاة، ليس في المأكل والملبس والمسكن فحسب، بل حتى في منسوب القمامة والنفايات، وفي ثقافة الكب والهدر والاسراف في التخلص من اطايب الطعام والشراب، دون اي تقدير او اعتبار لاثمانها الباهظة، او للمجهودات البشرية المبذولة فيها زراعياً وصناعياً حتى وصلت الى حالتها النهائية على المائدة•
وليس من شك ان اوسع وابشع مظاهر التفاوت الطبقي تجد تجلياتها العارية عند حواف حاويات القمامة، ففيما تغص هذه الحاويات بمخلفات محدثي النعمة، وارباب النهب والفساد والمال السهل، فانها تقف شاهداً كل صباح على سفراء الفقر والفاقة الذين يرتادونها غير مرة لاصطياد ما تيسر من الغذاء والكساء والاواني الفارغة والقابلة لاعادة الاستخدام•
ورغم ان هذه المعادلة تشكل سُبة في جبين اي مجتمع يرضى بها ويسكت عنها، الا ان الملياردير المصري احمد عز الذي يتقلد منصب امين التنظيم في الحزب الحاكم قد طلع علينا مؤخراً برأي موغل في الوقاحة والشذوذ الاخلاقي، اكد فيه ان تكاثر كميات القمامة في مصر دليل على تحسن الحالة الاقتصادية للشعب، وبالتالي فهي دليل على صحة السياسات الحكومية المصرية !!
هذه "النظرية العبقرية " لاحد حيتان الفساد في مصر اثارت زوبعة من السخرية والاستهزاء، وكان بين ابلغ الردود الموجعة على هذه النظرية، رأي تقدمت به الاخصائية الاجتماعية الشجاعة نهى حسين، وقالت فيه "ان الزبالة والسياسة اصبحتا وجهين لعملة واحدة في مصر، فلا يمكن لاي مراقب تجاهل حقيقة ان السياسة اصبحت ملوثة بالمصالح الشخصية، وباتت اقرب الى القمامة منها الى النظافة، ناهيك عن ان جلسات مجلس الشعب قد شهدت مؤخراً اكثر من ثلاثين حالة لجأ فيها النواب الى الفاظ لا تقل قبحاً عن النفايات المكدسة كالجبال في الاماكن العشوائية "•
معروف ان القاهرة وباقي المدن المصرية الكبيرة تعاني ازمة حادة في تكديس القمامة، وصعوبة التخلص منها، حتى انها قد استعانت بشركات اجنبية لتنظيف الشوارع والمرافق العامة، مما حدا بالناشط السياسي احمد السيد الى القول "مادامت دولتنا تحتاج الى شركات اجنبية لتنظيف شوارعنا واحيائنا ووسائل مواصلاتنا، فما معنى الاستقلال الذي حققناه ؟؟ "•• ولعل الجواب على هذا التساؤل الاستنكاري لم يأت من المسؤولين عن النظافة، بل من مجموعة طلابية تنتمي للجامعة الامريكية بالقاهرة اقدمت مؤخراً على تشكيل فرقة موسيقية مصرية اطلقت عليها اسم "فرقة الزبالين "، واكتفت باستخدام آلات موسيقية مصنوعة من الخردة وسقط المتاع، وقالت ان هدفها من وراء ذلك نشر ثقافة الحفاظ على البيئة•
وعلى فكرة، فان كل العواصم والمدائن الرئيسية في العالم تواجه تصاعداً متواصلاً في ازمات القمامة، وتحديات الحفاظ على النظافة، وقد هالني ذات جولة في شارع مسارح برودوي في قلب نيويورك، منظر اكياس الزبالة المكدسة بكامل قبحها على قارعة ذلك الشارع الجميل•• غير ان عشرات الشركات العملاقة هناك، سرعان ما تنهض بأعمال النظافة، ومن ثم تدوير كل تلك النفايات واعادتها مجدداً الى عالم الاستخدام، وبما يحقق لتلك الشركات ارباحاً طائلة، حتى انني قرأت بالامس القريب ان مشروع تدوير القمامة في السعودية سوف يدر على متعهديه عشرة مليارات دولار سنوياً•
من سوء حظ دول العالم الثالث، ان انسانها مازال في الاعم الاغلب تدنيسياً وتلويثياً ومستهتراً بقيم النظافة العامة، وجائراً على حقوق البيئة، ومستعداً لالقاء قاذوراته في الشوارع والميادين والمتنزهات العمومية، دون ادنى احساس بالذنب او شعور بالمسؤولية الاجتماعية التي تحتم عليه احترام المصلحة الوطنية والاهلية، بل توجب عليه الاقتداء بانسان العالم المتحضر الذي يرفض خيانة واجبه الجماعي، وتطهير منزله على حساب مدينته، واشاعة القذارة في سائر الانحاء والاحياء•• ربما مصداقاً لقول بريان آلديس : "الحضارة هي المسافة التي وضعها الانسان بينه وبين فضلاته "•
في مقال بعنوان "حاوية القمامة " فطن الكاتب الايطالي الكبير ايتالو كالفينو قبل ثلث قرن الى خطورة المنحى التصاعدي في انتاج القمامة على الصعيد العالمي، وقال منذراً ومحذراً : "كل ما يلزم عمال النظافة، هو قيامهم بالاضراب اياماً قليلة، تاركين القمامة تتراكم امام منازلنا لتتحول المدينة الى كومة روث عفنة، فنصاب بالاختناق باسرع من المتوقع جراء انتاجنا المتواصل من النفايات، ولنكتشف ان الوقاية التكنولوجية لحضارتنا ليست سوى قشرة هشة "•
وفي ومضة ابداعية ليست غريبة على هذا الكاتب الشفاف، اكتشف كالفينو ان فضلات الانسان جزء من عقابه الالهي وعذابه الدنيوي، لان آدم، الاب الاول للبشرية لم يهبط من الجنة الى الارض الا بعد التهام التفاحة، والبحث فيما بعد عن مكان لقضاء الحاجة اياها، نظراً لان الجنة فردوس ملائكي طاهر من الدنس، ومبرأ من الفضلات والنفايات•
شخصياً، لقد زاولت رياضة المشي الصباحي لاكثر من ربع قرن، ولكنني انقطعت مؤخراً عن هذه العادة اليومية المحببة، بعدما تضاعفت اعداد البؤساء المتقاطرين مبكراً على حاويات القمامة، وبات فظيعاً وفوق القدرة على تحمله !! ( المجد ) .