الانتخابات والضرورات الاقتصادية للحرية
تبدو الضغوط الاقتصادية تتناقض مع الحرية، لدرجة الربط بين الفقر والحاجة وبين فقدان الحرية في الانتخابات، أو انحرافها عن غاياتها المؤسسة لتتحول إلى عمليات شراء للذمم واتجار بالبشر! ثم تتطور الفكرة إلى عدم أهمية الحريات بالنسبة للأولويات الاقتصادية والمعيشية، بل تفضيل الترجيح بالحريات والديمقراطية لأجل التنمية الاقتصادية، وبالطبع ثمة أمثلة صحيحة كيف ساعدت المركزية الاستبدادية في تطوير التعليم والاقتصاد والتنمية وفي المقابل كيف كانت الديمقراطية والحريات سببا في الفشل الاقتصادي والتنموي (تجارب الصين والهند على سبيل المثال). لكن لا بأس بتكرار القول والإلحاح في القاعدة المنهجية في التفكير والتحليل بأن المقارنات والجدالات دائما ليست بين خير وشرّ، وإنما في الترجيح بين الخيارات وتقدير القوة والضعف في جميع الخيارات، فلا تكفي أدلة صحيحة للقبول بخيار أو فكرة أو رفضها.
تطرح بقوة ومنطقية فكرة وضرورة أن ينصب الاهتمام على الحقوق الاقتصادية الوثيقة الصلة بالاحتياجات الأساسية المهمة وأن ننسى أو نؤجل الاهتمام بالحريات وحقوق الإنسان والبيئة والتغير المناخي والمساواة والتمكين، لكنه افتراض خاطئ نفى الصلة بين الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبين التقدم الاقتصادي!
يجادل أمارتيا صن بالقول إن الحريات السياسية توفر قاعدة مكينة وراسخة للتقدم الاقتصادي، فالغاية الأساسية للموارد وإدارتها هي الرضا وتحسين الحياة ورفع مستوى المعيشة، وفي ذلك فإن الحرية تؤدي دورا أساسيا وفاعلا، وثمة اعتبارات ثلاثة مختلفة تقودنا في اتجاه القول بغلبة الحقوق السياسية والليبرالية الأساسية: أهميتها المباشرة في الحياة الإنسانية في اقتران بالقدرة الأساسية بما في ذلك المشاركة السياسية والاجتماعية، ودورها الأداتي لتعزيز الحجج التي يدلي بها الناس عند التغيير ودعم مطالبهم بالاهتمام السياسي، بما في ذلك مطالبهم بشأن الاحتياجات الاقتصادية، ودورها البنائي في صياغة المفاهيم عن الاحتياجات، بما في ذلك فهم الاحتياجات الاقتصادية في سياق اجتماعي. وليس من سبيل لتقييم الصيغة الديمقراطية لنظام الحكم إلا بوضع هذه الفضائل الثلاث موضع اعتبار.
ويجري استخدام الحريات السياسية والحقوق المدنية على الرغم مما فيهما من قيود، استخداما فعالا، والملاحظ في المجالات التي لم يكن فيها استخدامها فعالا أن الفرصة قائمة لتفعيلها، وأن الدور الاختياري للحقوق السياسية والمدنية في السماح، أو في الحقيقة تشجيع الحوارات والمناقشات المفتوحة وسياسة المشاركة والمعارضة الحرة دون اضطهاد يدق على نطاق واسع للغاية، حتى إن كانت أكثر فعالية وكفاءة في مجالات دون الأخرى، ومن الأهمية بمكان فائدتهما الثابتة بالدليل والبرهان في منع وقوع كوارث اقتصادية.
لكن ومع إقرارنا بأهمية المؤسسات الديمقراطية فإنه ليس بالإمكان اعتبارها أدوات تعمل آليا من أجل التنمية والتطوير، وإن استخدامها مشروط بما نؤمن به من قيم وأولويات، وباستثمارنا للفرص المتاحة للتعبير والمشاركة، وهنا يكون دور الجماعات المعارضة المنظمة مهما خصوصا في هذا السياق.
كذلك فإن الحوارات والمناقشات العامة التي تسمح بها الحريات السياسية والحقوق المدنية يمكنها أن تؤدي دورا رئيسيا في صياغة القيم، حقا إن تعيين الاحتياجات يتأثر بالضرورة بطبيعة المشاركة والحوار العامين، وقوة الحوار ليست فقط إحدى متلازمات الديمقراطية، بما لها من مدى واسع النطاق، بل إن غرسها كثقافة يمكن أن يجعل الديمقراطية ذاتها تعمل وتثمر على نحو أفضل. مثال ذلك أن الحوار العام بشأن قضايا البيئة حين ينبني على قدر أكبر من المعلومات وقدر أقل من التهميش، فإن هذا لن يكون فقط مفيدا للبيئة، بل ربما يكون مهما أيضا للصحة وللأداء السليم للنظام الديمقراطي نفسه.
وإذا كانت الديمقراطية مهمة باعتبارها مصدرا رئيسا للفرصة الاجتماعية، فإن ثمة حاجة أيضا لدراسة وفحص سبل ووسائل تفعيلها لكي تعمل على نحو جيد، وتحقق ما فيها من إمكانات، والمعروف أن إنجاز العدالة الاجتماعية لا يتوقف فقط على أشكال مؤسسية، بما في ذلك القوانين واللوائح التنظيمية الديمقراطية، بل وأيضا على الممارسة الفعالة.
الغد 2017-07-05