عن الانتفاضة الثالثة التي يخشاها العدو
الحقيقة التي لا يمكن الجدال فيها، حين يجري الحديث عن الدوافع التي وقفت خلف تراجع نتنياهو فيما يتعلق بالإجراءات الخاصة بالأقصى، هي أن صمود المقدسيين كان السبب الأول في التراجع، لكن السبب الآخر الذي لا يقل أهمية هو الخوف من تداعيات هبّة الأقصى، وتحذير المستويات الأمنية والعسكرية الصهيونية من مغبة اندلاع انتفاضة ثالثة كما يسمونها، على اعتبار أنهم لا يرون أن انتفاضة القدس التي تتواصل بمستويات مختلفة منذ تشرين ثاني/ نوفمبر 2015 هي انتفاضة كسابقتيها، بقدر ما هي مبادرات فردية تظهر بين حين وآخر.
لا يختلف عاقلان على أن الدوائر الأمنية والعسكرية والسياسية الصهيونية حين تحذر من انتفاضة ثالثة، فهي لا تفعل ذلك من منطلق الحرص على دماء الفلسطينيين، وهو الحرص الذي يبرر به كثيرون مواقفهم ضد تلك الانتفاضة، لكأن الشعوب تحررت من أسر المحتلين دون دماء وتضحيات.
الدوائر الصهونية تحذر من انتفاضة ثالثة، لأنها تدرك ما تعنيه على أمن الكيان ومستقبله، هي التي استمتعت منذ العام 2004 بأمن استثنائي وفّرته السلطة، بل إنها بقيت كذلك، حتى حين اشتعل العالم العربي بالثورات، فتجنبت بذلك المخاطر، وتجاوزت الأزمة الاقتصادية العالمية، وتمكنت في غضون ذلك من مد نفوذها نحو دول لم تحلم بالوصول إليها، لأن فترات “الهدوء” هي التي تمنح العدو فرص التمدد في العالم.
نتنياهو عبّر عن هذا الموقف بشكل واضح يوم الأحد الماضي؛ وإن على نحو موارب بقوله في معرض تبرير تراجعه في موضوع الأقصى: “أتخذ القرارات من أجل ضمان أمن إسرائيل، ويجب أن أتخذها برباطة جأش وبرشد، أقوم بذلك آخذا بالحسبان الخريطة بأكملها، وجميع التحديات والتهديدات التي نواجهها، حيث طبيعة بعضها ليست معروفة للجمهور، وبطبيعة الحال لا أستطيع أن أفصح عن تفاصيلها”.
منذ 2004، والكيان الصهيوني يستمتع بوضع استثنائي على كافة المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، واندلاع انتفاضة ثالثة شاملة سيعني حرمانه من ذلك كله أو أجزاء مهمة منه، لا سيما أن الرأي العام العالمي لن يهضم مقولاته وتبريراته للقمع، وسيتعاطف بالضرورة مع الشعب الفلسطيني الثائر، بصرف النظر عن مواقف الأنظمة، ونتذكر في هذا السياق ذلك الاستطلاع المثير للاتحاد الأوروبي في العام 2002، حين كانت العمليات الاستشهادية تضرب عمق الكيان، وكيف قال 59 في المئة من الأوروبيين إن “إسرائيل” هي الدولة الأكثر خطرا على السلام العالمي، وبجانبها أمريكا، أكبر داعميها.
ليس هذا فحسب، بل إن رفع الانتفاضة الشاملة الجديدة لبرنامج واضح وصريح، وتجمع عليه فعاليات الشعب؛ عنوانه دحر الاحتلال بدون قيد أو شرط عن الأراضي المحتلة عام 67، إنما يعني إمكانية النجاح بالفعل، فهذه الأرض يُجمع العالم على أنها محتلة، وهناك من يطالب بدحر الاحتلال، وليس من حقه أن يطالب باعتراف أو تطبيع.
المصيبة أن هناك من العرب من يخشون من الانتفاضة أكثر من خشية الاحتلال منها، والسبب هو أنها ستعيد توجيه البوصلة نحو العدو الأهم (لا يعني ذلك تجاهل عدوان إيران وجنونها)، وثانيا أنها قد تعيد برأيهم التذكير بمطالب الربيع العربي، وستفرض عليهم دعم الشعب الفلسطيني تحت وطأة الرأي العام.
لذلك كله، يتواطأ أكثر العالم على منع انتفاضة من هذا النوع، لكن من قال إن على الشعب أن يستجيب لذلك، وهو يرى أنه أمام غزاة لا يتوقفون عن الاستيطان والتهويد، فيما يسعون إلى فرض تسوية لا تعني غير تصفية للقضية؟! والخلاصة أن مشكلة الشعب هي في قيادته، بينما هو جاهز دائما لتقديم التضحيات من أجل الحرية والتحرر.
الدستور 2017-08-02