ميلودرامية اجتماعية وسياسية
برغم أن الميلودراما مفهوم أدبي وفني يعكس المبالغة في الأحداث والأداء والانفعال، فإنه يتحول إلى مفهوم نفسي واجتماعي وسياسي. وبغض النظر عن التقييم الفني والاختلاف فيه. فإن الميلودرامية في السياسة والاجتماع حالة خطرة وكارثية تعكس التشويه للقضايا والجدالات والقيم والأفكار الجامعة للمواطنين ومصالحهم وعلاقاتهم، كما تؤشر على عدم النضج الاجتماعي، والسلوك السياسي الذي يستثمر على نحو سيكوباثي "مضرّ وغير مسؤول" في هذه الحالة بدلا من مواجهتها، والعمل على تطوير الأداء والمستوى العقلاني الاجتماعي للأفراد والمجتمعات.
عندما يتحول التعامل مع التحديات والأحدث والقضايا كما لو أنها دراما تاريخية بطولية أو تراجيدية أو استعادة أسطورية أو رمزية؛ فذلك يعني ببساطة وبداهة أنها تدار وتنظم بعيدا عن هذه الميلودراما، وأن المواطنين لا يشاركون بفعالية ومنهجية في التأثير في الأحداث والمواقف وفي مراقبة السلطة التنفيذية، وعندما تنشغل الجماهير والمعارضات والولاءات في المهرجانات والحشد الإعلامي، وتحسب التسلية معارضة والفرجة بطولة فإنها تتخلى طواعية أو استدراجا عن حقوقها وواجباتها الأساسية، وتفقد قدرتها على تحديد مصالحها وأولوياتها، ولا تعود قادرة على التمييز بين الضرر والمنفعة، ثم تتشكل متوالية من الشرور والأزمات، ففي هذا الاستغراق في الغيبوبة السياسية أو في إعادة إنتاج السياسة وكأنها ميلودراما تتبدل النخب أيضا.. يتحول المهرج على خشبة المسرح إلى قائد، والممثل الذي كان يؤدي دور صلاح الدين يحسب نفسه صلاح الدين، وتتشكل مصالح فاسدة معقدة يصعب تفكيكها، فلا يكون تغييب المجتمعات فقط مصلحة نخبوية أو سلطوية، لكن هذا التغييب يتحول إلى مصالح وتحالفات مشتركة متغلغلة في المجتمعات نفسها.
أسوأ وأخطر ما في الميلودراميين أنهم يحولون قضاياهم وأحلامهم الصغيرة أو الكبيرة ورغباتهم الخفية أو المعلنة إلى قضايا عامة أو وطنية أو دينية، وأسوأ من ذلك أن لديهم الاستعداد للتحول 180 درجة في سرعة وبلا تردد. ويمكن أن يتحولوا فجأة الى أعداء لفكرة أو قضية أو بلدهم أو طبقتهم. وأن ما كان يبدو أنهم مستعدون للموت لأجله يصبح استعدادا للموت لأجل ضده، تماما كما يبدل الممثلون أدوارهم وشخصياتهم حسب تغير الميلودراما وتبدلها، والأسوأ من ذلك كله لا يدرك الميلودراميّ الخطأ والخطر ولا يستشعر المسؤولية، ويحسب أن الكون معرض للدمار بدونه. بل ويسيطر عليه شعور بالشفقة على الناس والبلاد لأنه خسر قضيته، أو لم يحقق رغبته في الحصول على حذاء رياضي يتمنى الحصول عليه.
نحتاج إلى تذكير مملّ ومكرور بالقيم الأساسية المحركة والمنظمة للمجتمعات والدول وعلاقاتها، وأسوأ ما يصيب الإصلاح ويعطله عندما لا تكون القيم العليا مثل الحريات والعدالة واستقلال المدن والمجتمعات مصلحة للمتنافسين من الطبقات والمكونات الرئيسية للدولة والمجتمع والأسواق.. في هذه الحالة يتحول الفساد إلى هدف مشترك متقبل ومتواطَأ عليه، وتتحول أدوات الإصلاح مثل الانتخابات إلى حلقات شريرة؛ ليست فقط تحمي الفساد وتغيّب الحريات والعدالة، لكنها تنتج نخبا وطبقات ومجتمعات تدافع عن الفساد والظلم باعتباره إصلاحا، ويتحول الفساد إلى مطلب جماهيري واجتماعي .. و"إللي شبكنا يخلصنا".
الغد 2017-08-05