عشوائية ترمب ومبعوث التأزيم الأمريكي
رغم النداءات المتكررة من المسؤوليين الأمريكان لترمب للتوقف عن التغريد عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووقف تصريحاته النارية والعشوائية؛ إلا إنه مازال مصرا على خوض معارك الولايات المتحدة على شبكات التواصل الاجتماعي وكأنها معركته الشخصية؛ موحيا بحملة انتخابية وعامل انتخابي لم يتوقف عن التفاعل حتى اللحظة في الساحة الداخلية الأمريكية.
ترمب وجه تهديدات الى كوريا الشمالية بغضب ينزل عليها من السماء محاكيا تصريحات ترومان التي سبقت القاء القنبلة النووية على اليابان؛ بل وذهب بعيدا بتوجيه تهديدات لفنزويلا باللجوء الى الخيار العسكري واجتياحها؛ وسبقه تهديدات مماثلة في المنطقة العربية للنظام السوري وحلفائه الايرانين؛ تصريحات تنعكس مباشرة على مصداقية الولايات المتحدة التي باتت مشدودة الى عدد كبير من الأزمات وبات من الصعب التركيز على جبهة بعينها بفعل التصريحات العشوائية المأخوذة بروح الحملات الانتخابية.
الأسوأ من ذلك ان الرجل يرغب باستعادة دور الولايات المتحدة وتنشيطه في عملية السلام من خلال إرسال غرينبلات مبعوثة للسلام الذي يعد احد المستوطنين المتطرفيين؛ مايجعل منه «المبعوث الامريكي للتأزيم»؛ فالعملية برمتها مجرد نكتة سمجة تثير الضحك والغضب والاشمئزاز في المنطقة؛ فقدرته على تأزيم الموقف عالية جدا بإشعال حرب في غزة، وتفجير الموقف في القدس والضفة الغربية، فهو مبعوث التأزيم الأمريكي للمنطقة بدون أدنى شك.
الإجراءات الاسعافية البائسة نجدها في الازمة الخليجية بارسال المبعوثيين لحل نزاع متفاقم كان لترمب الدور الاكبر في تفجره؛ ولم يعد من المتوقع ان ينتهي بين ليلة وضحاها؛ فالمقترحات تصطدم بصراع داخلي محتدم في الادارة الأمريكية عمقتها الازمة الخليجية وتضارب مصالح الحلفاء المتشاكسين.
حالة التشتت غير مسبوقة تمتد الى روسيا، فالعقوبات المقرة على موسكو لاتخلو من التأزيم والاعاقة لفاعلية السياسة الأمريكية المتخبطة والمتأثرة بحسابات داخلية غير مدورسة ومبنية على مناكفات وحالة قصور ذاتي كبير.
تصريحات ترمب العشوائية تزيد الامور سوءا وتنعكس على الاسواق المالية، سلبا فأمريكا تعاقب نفسها بنفسها من خلال الفوضى التي يثيرها ترمب وتغريداته؛ فارضة على نفسها عقوبات وعزلة غير مسبوقة وحصارا من كل الاتجاهات، ومشعلة مزيدا من الحرائق المشتعلة في النفوذ الأمريكي؛ فالتفاعل معها لايخرج عن كونه محاولة للاستثمار من قبل القوى المنخرطة بها دون يقين بامكانية استئناف هذه السياسية، والوصول الى نهاياتها.
أداء ترمب العشوائي يقابل بجهود كبيرة تبذلها المؤسسات الأمريكية لمحاولة احتواء هذا الاداء البائس والسلبي؛ فوزير الدفاع صرح بان أمريكا تفضل الحوار على المواجهة مع كوريا الشمالية؛ وبعدها بساعات صرح البنتاغون بان الحديث عن اجتياح أمريكي لفنزويلا في غير محله، فأمريكا تريد الدفاع عن مواطنيها ومصالحها فقط؛ وفي الملف السوري والعراقي والايراني لازالت سياستها تراوح مكانها وتتجاذبها الازمات الدولية وتفضيلات الحلفاء في المنطقة؛ خيارات واشنطن تزداد بؤسا وعقما في العالم، واشعال معركة في مكان من الممكن ان يقود الى اشتعال الجبهات كافة.
خصوصا وان اندلاع حرب في شبه الجزيرة الكورية غير معروف النتائج، لامتلاك كوريا الشمالية ستين قنبلة نووية؛ معركة تمثل فرصة لاستنزاف الولايات المتحدة وادخالها في ازمة ممتدة تقود الى مزيد من الانهيارات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، التي يرغب فيها الكثيرون في العالم؛ يقابلها سيناريو العجز وانعدام القدرة على الرد على استفزازات بيونغ يانغ؛ ما يعني ان الصين وروسيا ستصبح الفاعل الاساس في حل الازمة وامتلاك مفاتيحها في جنوب شرق آسيا؛ فأمريكا خاسر لامحالة في الحالتين في حرب لا تعرف خطوط تماس واضحة الى الان؛ ولاتحمل نهايات سعيدة لنفوذها.
ترمب يقفز بأمريكا من أزمة الى اخرى في محاولة لإثارة اكبر قدر من الفوضى في الساحة الدولية، مبعدا الانظار عن ازمته الداخلية، ومحاولا التهرب من التركيز على أزمة بعينها في ذات الوقت؛ سياسة ستضرب مصداقية الادارة الأمريكية وتزيد تشتت جهودها السياسية في العالم؛ الامر الذي يستهوي الكثيرين بالمراهنة على بقاء ترمب لاطول فترة ممكنة في الرئاسة، يتمنى البعض ان تمتد الى حقبتين رئاسيتين؛ فوجوده يعد مكسبا للكثيرين الراغبيين بتغير المعادلات الدولية وقلب الموازين لغير صالح الولايات المتحدة.
الازمات تتنقل وبسرعة البرق من جنوب شرق آسيا والباسفيك الى غرب آسيا ثم الى أمريكا الجنوبية تزيد من مأزق القوة الأمريكية، وتفاقم من حالة انعدام الثقة في الاداء السياسي والعسكري الذي لن يصل الى نهاياته الاستراتيجية في اي أزمة من الازمات المشتعلة؛ فكلما توسعت الجبهات وتعددت أصبح من المستحيل تحقيق اي انجاز في اي منها؛ اذ ستقود في النهاية الى الشلل التام للسياسة الأمريكية والى تراجع كبير من الممكن ان يمس هيمنتها الاقتصادية والعسكرية.
السبيل 2017-08-13