في معنى أن تُحرَّر.. «دير الزور»
ساعات معدودات تفصلنا عن طيّ صفحة داعش السوداء في مدينة دير الزور، التي نجح محاصرتها قبل ثلاث سنوات (2014) بدعم مفتوح ومُعلَن من قِبل طيران التحالف الأميركي الذي ارتكب جريمة حرب موصوفة في مثل هذا الشهر من العام الماضي (أيلول 2016) عندما أغار على جبل الثردة الاستراتيجي في تخوم المدينة وأزهق أرواح عشرات من قوات النخبة في الجيش السوري، كانوا يتصدّون لهجوم واسع من إرهابيي داعش، ما مكّنهم من السيطرة على هذا الجبل الاستراتيجي وإحكام حصارهم للواء 137 الذي صمد في وجه داعش لأكثر من ألف يوم، وها هو يستعِّد للإلتقاء برفاق السلاح الذين اقتربوا جداً من مواقعه، كي يواصل مهمته في تطهير دير الزور التي يُطلِق السوريون عليها اسم «عروس الفرات»، لتدخل الحرب على سوريا وفيها المرحلة الأخيرة من فصولها الدموِيّة.
ما يحدث في دير الزور الآن يكتسب أهمية اضافية، ليس فقط في انه يقطع نحو شبه نهائي الطريق على التحالف الأميركي الرامي الى فصل الشرق السوري عن باقي الجغرافيا السورية، ويجد لنفسه موقعاً مهماً بل استراتيجياً في تحديد مسار وسيرورة الأزمة السورية في بعدها السياسي وموازين القوى فيها، المحلية والاقليمية على حد سواء، وإنما أيضاً في دفن مشروع تقسيم سوريا الى كانتونات عِرقية وأخرى طائفية ومذهبية إتكاءً على لعبة عشائرية في الشرق السوري، حيث نجح السوريون في تشكيل «جيش» من أبناء العشائر في تلك المنطقة، خصوصاً الذين تعرّضوا لعسف داعش وارتكاباته و»حفلات» الإعدام الميداني التي نفذّها ضدهم هناك، وفي مقدمتهم عشائر الشعيطات الذي نكّل داعش بشيوخها وعديدها.
في معركة تحرير دير الزور الدائرة الآن بشراسة، ستُحدّد الأوزان والأحجام لمختلف القوى الخارجية وخصوصاً الداخلية، حيث حاول الأميركيون تحويل دفة الأحداث المتسارعة فيها، نحو حلفائهم في قوات سوريا الديمقراطية، وبذلوا جهوداً مكثفة ولكن فاشلَة، من أجل انتقال تلك القوات التي يُشكِّل كرد سوريا الغالبية العظمى من عديدها ويتحكمون بقرارها وخصوصاً العسكري، نحو الجنوب الشرقي من دير الرقة باتجاه دير الزور، إلاّ انهم فشلوا – حتى الآن – في طرد داعش من الرقة ما أجَّل زحفهم نحو دير الزور وإن لم يتبدّد هذا الاحتمال، الذي ما يزال الأميركيون يراهنون عليه، كي يُنقذِوا ما يمكن إنقاذه من خطتهم الهادِفة إلى قطع طريق دمشق بغداد، والذي سيكون صعباً ان لم يكن مستحيلاً عليهم تنفيذها، إذا ما نجح الجيش السوري المدعوم وبكثافة لافتة لسلاح الجو الروسي، في تحرير دير الزور والتوجّه مباشرة نحو بلدتي «الميادين والبوكمال» على الحدود العراقية، الأمر الذي سيُبقي الأميركان وقوات سوريا الديمقراطية في الجيب الكردي المعروف بين الحدود التركية والشمال السوري، وهو جيب غير مرشح للبقاء لأسباب عديدة ليس أقلها، أن تركيا المرتبِكة والمأزومَة تُهدّد باجتياح مناطق ذلك الجيب لمنع أي محاولة كردية (بدعم أميركي غير مضمون بالمناسبة) من اتخاذ اي خطوة في اتجاه انشاء كانتون كردي في المناطق التي يُطلق عليها كرد سوريا روج آفا أو... كردستان الغربية.
ليس مبالغة القول إن تحرير دير الزور سيأخذ الأزمة السورية إلى مربع جديد بأبعاد استراتيجية وحاسمة في اتجاه هزيمة مشروع اسقاط الدولة السورية، وبما يُشكِّل هزيمة موصوفة لكل الذين ساهموا في اشعال الحرب على سوريا وفيها وبخاصة اولئك الذين راهنوا على جماعات الاسلام السياسي، وعلى رأسها جماعات الاخوان المسلمين، ولم يتخلّوا عنهم نهائياً حيث يجري الحديث عن انشاء «مجلس إسلامي» في محافظة إدلب الخاضعة لهيمنة جبهة فتح الشام (النصرة سابقاً، بما هي الذراع السوري لتنظيم القاعدة الإرهابي)، بعد دحر داعش وتصفية حركة أحرار الشام، ما اسقَط رهانات كثيرة، إلاّ ان رهط المهزومين الإقليميين وعلى رأسهم تركيا يريدون الحفاظ على «رؤوس» هذه الجماعات الإرهابية، كي يواصلوا الاستثمار فيها لاحقاً، وبخاصة أن الانتصارات التي يُحقِّقها الجيش السوري على مختلف الجبهات وبخاصة في دير الزور، ستضع حداً لمشاريعهم، التي ما ان يتم الاعلان عن احدها حتى يتبين لهم انها مستحيلة التحقيق، فيبحثون على ذريعة أخرى دون أن ينجحوا في ابعاد شبح الهزائم التي تُلاحقهم.
تحرير دير الزور يوازي في اهميته اإستراتيجية والمعنوية ما حدث نهاية العام الماضي، عند تحرير شرق حلب، ما شكّل المسمار الأقوى الذي دُقّ في نعش مشروع اسقاط الدولة السورية وتقسيم سوريا، وسيضع تحرير دير الزور حداً لكل المغامرات ومحاولات إنعاش الجماعات الإرهابية المهزومة، وسيشكّل اثباتاً اضافياً لكل المراهنين على هؤلاء الإرهابيين ان لا سبيل أمامهم سوى الإقرار بهزيمتهم والجنوح نحو الواقعية السياسية، والإعتراف بآثار وثِقَلِ موازين القوى التي لن تعود إلى صالحهم، ما يفرض عليهم تسهيل تطبيق جداول اعمال مساري «استانة وجنيف»، وبغير ذلك فانهم لن يصيبوا نجاحاً يُذكر في محاولاتهم لعرقلة ما بات صعباً على العرقلة أو فرض الشروط، وبخاصة أن «الدمى» والأدوات التي راهنوا عليها وتحديداً منصة الرياض وما يُسمّى الهيئة العليا للمفاوضات قد سجّلتا فشلاً ذريعاً وموتاً سريرياً لا تنفع فيه كل محاولات إحيائهما، عبر تغيير الأقنعة أو تلبيس الطواقي أو الإتيان بشخصية أخرى غير رياض حجاب الذي انتهت صلاحيته السياسية ووظيفته المؤقتة، التي تم اختراعها له. أمّا حكاية «مَرَضِه» المفتعَلة فقد باتت مكشوفة، كونها سذاجة سياسية، غير قابلة للتداول أو... التصديق.
الراي 2017-09-06