عمرو خالد أمام سيل الهجاء
خلال وقفة عرفة، وتالي أيام العيد، تحوّل الداعية الشهير عمرو خالد إلى مادة للسخرية إثر دعائه المثير لمتابعي صفحته على “الفيسبوك”، و”حجه المتلفز”.
الحق أن ما جرى للرجل ينطبق عليه المثل القائل “مش رمانة.. قلوب مليانة”، رغم أن ما فعله كان مثيرا للسخرية بالفعل، ومعه ذلك القدر من الأداء التمثيلي الفاشل في دعائه “المتلفز”، والذي يذكّر بعادل إمام الذي لم يتمكن يوما رغم عشرات الأفلام من تقديم موقف “بكائي” مقنع، حتى في أشد المواقف تأثيرا في الأفلام، الأمر الذي ينجح فيه ممثل من الدرجة الثالثة، ولا قيمة هنا للقول إنه ممثل كوميدي، لأن هناك الكثيرين من الممثلين الكوميديين ينجحون في ذلك ببراعة!!
لمع نجم الداعية المصري مطلع الألفية الجديدة، وبدأه من خلال حلقات تتحدث عن كبار الصحابة، مع ظلال على سيرتهم وحياتهم، وسجّل نجاحات باهرة في تلك الأيام التي كانت الفضائيات هي علامتها الفارقة، في حين احتلت مواقع التواصل تلك المنزلة خلال المرحلة الأخيرة، بخاصة في العقد الثاني من القرن الحالي.
والحق أن الرجل كان ناجحا بالفعل، رغم علمه الشرعي المحدود، وكانت له أدوار يصعب إنكارها في إدخال التدين إلى بيوت لم تعرفه من قبل، بخاصة بين أبناء الطبقة المتوسطة، والطبقة الأعلى دخلا وصولا إلى أبناء الأثرياء، وتمكن من تسجيل انتشار في كل أرجاء العالم العربي، وليس في بلده مصر وحسب. وحين كان يحضر إلى بلد ما، كان يجتمع له عشرات الآلاف، ويتمنى أضعافهم مشاهدته، ولا يتاح لهم ذلك.
نفتح فاصلة هنا لنقول إن انتشار التدين خلال الألفية الجديدة لا يرتبط بعمرو خالد، ولا ما يسمى “الدعاة الجدد”، بقدر ما يرتبط بجملة ظروف موضوعية أخرى، لكن إنكار دور هذه الفئة في تلبية الطلب الشعبي على المعارف الدينية ليس منصفا بحال.
بعد ذلك بدأ مسلسل الانحدار في مسيرة عمرو خالد، وهو مسلسل بدأ أولا من تغيير نمط الدعوة، وتحويلها من تقديم النماذج الراقية للصحابة والتابعين التي تقرّب الناس من الدين، إلى حكاية “صناع الحياة” التي تنطوي على الدخول في مجال آخر عنوانه العمل العام، مع عدم إدراك أن الإنسان لا يحتاج إلى وعظ كي يطارد الحياة، لأن ذلك جزء من تركيبته النفسية، وما يحتاجه هو أن يُشدّ إلى الآخرة والقيم العليا، وكلما اقترب من تلك القيم، زادت فعاليته الإيجابية في الحياة، وتزيد أكثر حين يجري تذكيره بالنمط الإيجابي للتدين، وليس ذلك الذي يتعامل مع رب العزة بروحية الحسابات التقليدية السطحية (إفعل كذا تأخذ كذا). وهو أي الإنسان، “هلوع”، و”منوع”، و”جزوع”.. إلى آخر تلك الصفات التي وردت في القران الكريم، وحيث لم تُذكر كلمة الإنسان إلا في معرض الذم، بينما كان الاستثناء لمن يذهبون نحو مسارات التزكية بالصلاة وغيرها.
لم يتوقف عمرو خالد عند ذلك، فشهرته دفعته إلى مسارات أكثر شطبا للدعاة في وعي الناس، وأولها الركض المبتذل خلف المال مقابل الدعوة. وقصصه، وغيره على هذا الصعيد كثيرة، لكن الأهم والأكثر تأثيرا هو المسار السياسي. وعلى هذا الصعيد سقط الرجل سقوطا مريعا؛ بدءا من قصة الدانمارك الشهير (الرسوم المسيئة)، حين اتخذ مسارا يخالف الغالبية الساحقة من الناس، ثم تاليا فيما يتعلق بثورة يناير ومتعلقاتها وتوابعها، ومحاولته دخول المعترك السياسي، ثم سقوطه في اختبار الحرية بعد ذلك.
تلك هي مصيبة الدعاة الذين يغيرون “مشيتهم”، ثم يتورطون في مستنقع السياسة البائس والمعقد، وهنا ثمة فرق كبير بين الانسجام مع خيار الغالبية من أبناء الأمة في القضايا الكبرى، وبين التورط في تفاصيل السياسة والدخول في دهاليزها، وتحليللاتها وخياراتها المعقدة.
يريد الناس من الداعية أو العالم أن ينحاز إلى خيار غالبية الأمة في القضايا الكبرى، لكنه مع الشهرة يقنع نفسه أن بوسعه الإفتاء في كل أمر، فيتورط، لا سيما أن السياسة ليست بضاعته، وهي بالغة التركيب والتعقيد، وليس بوسعه إدراك منطلقاتها.
السلطة، أي سلطة ليست بعيدة عن هذه القضية، فهي تريد استغلال شهرة أي داعية أو عالم في ترويج ما تريد، ولها دورها الكبير في توريطه عبر العصا والجزرة، لكن الداعية الشريف والعاقل يمكنه تجنب التورط؛ أدناه بالصمت، وأعلاه بالانسجام مع الخط العام لضمير الناس.
الخلاصة أن ورطة الدعاة والعلماء تبدأ من تغيير اللون، والتدخل في كل أمر، ومن ثم في الركض خلف المال، وآخر ذلك، وربما يتداخل معه، التورط في دهاليز السياسة، ومخالفة الوعي الجمعي للغالبية.
محزن ما جرى لعمرو خالد، وبالطبع لآخرين سواه لا حاجة لذكرهم هنا، وليت سواه ومن سيأخذون ذات المسار لاحقا يستوعبون الدرس ويستفيدون منه.
الدستور 2017-09-10