هذا «الزفير» الاجتماعي.. كيف نواجهه ؟!
لا ادري اذا ما كانت المخاضات الصاخبة التي يشهدها مجتمعنا دليلا على العافية ام انها مؤشر خطير وخطوة على سكة الندامة..؟
اذا سألتني عن المخاضات التي اقصدها فهي اكثر من ان تحصى، لكن اهمها ما جرى من انقسامات على صعيد جبهتنا الداخلية، مرة باسم الرياضة واللعب، ومرة تحت لافتة الدولة المدنية والحريات العامة، وثالثة بذريعة الدفاع عن العشيرة من الانتقاد، ورابعة لمواجهة المقررات الحكومية، سواء تعلقت بالضرائب الموعودة او بالتعيينات غير العادلة، دعك طبعا من صور البلطجة والجرائم المروعة التي شهدناها والردود الاجتماعية التي توالت عليها.
اذا أضفت الى ذلك ما يحدث الآن في بلدنا من “حرائق” اجتماعية، ومن “زفير” ساخن وملتهب احيانا، ومن محاولات “للتنفس” اخذت في الغالب الطابع العنيف، ومن تحولات عميقة جرت على صعيد العلاقة بين المجتمع والدولة، ستكتشف ايضا ان ازمتنا “السياسية” انعكست تماما على المجتمع، وان محاولات تطويقها امنيا لم تنجح بما يكفي، بل ربما ستساهم في امتدادها، الامر الذي يحتاج الى “اطفائيات” سياسية عاجلة، يفترض ان نتعامل معها بمنطق الفهم اولاً، والمعالجة الحكيمة ثانيا، وفي اطار القانون واخلاقياته المتعارف عليها انسانيا ودوليا.
من الطبيعي - بالطبع - ان يتحرك المجتمع للدفاع عن نفسه، او ان يرفع الناس اصواتهم للمطالبة بحقوقهم، لكن شتان بين هذه الحركة الطبيعية وبين ان يدخل المجتمع فيما يشبه حرب الاستنزاف، وكأن الكل يريد تصفية الكل، او كأن حالة من الثأر تدفع الاطراف الى الانتقام من بعضها .
حركة المجتمع يفترض ان تكون بايقاع متوازن، وان يقف وراءها “قوى” معتبرة من حيث المصداقية والموثوقية، ثم ان تكون اتجاهات بوصلتها محددة بدقة نحو المصلحة العامة.
ما حدث لم يكن -في معظمه - كذلك، فقد عكست هذه المخاضات ازمة سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة، واخرجت من المجتمع اسوأ ما فيه من غضب وتعصب، وولدت حالة من الوجوم والصدمة والخوف، وبالتالي جاءت رسائلها مزدحمة بما لم نألفه في مجتمعنا من تلاسنات واوصاف والغاز، كما انها عكست اتساع فجوة الثقة بين افراد المجتمع بعضهم مع بعض، وبينهم وبين الدولة ايضا.
المشكلة هنا ان المجتمع حين بدأ يتحرك بهذه الكيفية، سواء من تلقاء نفسة او بسب عوامل واطراف مستفيدة حرضته على ذلك، لم يجد من المسؤولين اية ردود مقنعة، فقد ترك يعارك مخاضاته لوحده، فيما تعطلت “اللواقط” السياسية التي يفترض ان تستقبل ذبذباته وتفهمها،او تجد ما يناسبها من تصريف .
اذا اتفقنا على ان حالة “مجتمعنا” صعبة، وان الدولة تتحمل مسؤولية تشخيصها وعلاجها، فان من واجبنا ان نسأل عن الاسباب التي اوصلتنا الى ذلك، وعن “المسؤولين” عنه، وعن المراجعة الضرورية التي يتوجب ان نذهب اليها، لا في اطار “طيّ الصفحة” وفتح صفحة اخرى على قاعدة “عفى الله عما سلف” ولا على قاعدة “المصالحة” التي تنزل بالبراشوت، وانما على قاعدة الاعتراف بالخطأ اولا، والاعتذار عنه ثانيا، ومحاسبة المسؤولين عنه ثم اجراء ما يلزم –بعد ذلك- من جراحات تضمن لمجتمعنا ان يستعيد عافيته.. وان يستريح بعد سنوات التعب والخوف.. والانتظار.
وصفة الاصلاح السياسي، -على اهميتها- لا تكفي لانجاز “اصلاح المجتمع” ولهذا فنحن بحاجة الى وصفات “اصلاحية” وعملية تبدأ على الفور وتشمل كافة قطاعات المجتمع، التعليم والادارة والاعلام ومؤسسات السياسة والدين والثقافة، وغيرها، ذلك انه لا يمكن لمجتمع ان يستقبل ذبذبات الاصلاح السياسي ما لم تكن “لواقطه” الاجتماعية والثقافية سليمة وجاهزة وداخل التغطية، كما لا يمكن ايضا ان نباشر اي اصلاح شامل إلا بأفكار جديدة، ووجوه جديدة واجراءات مقنعة ايضا، فما فعلناه بأنفسنا على مدى السنوات الماضية يحتاج الى مزيد من التعب والعمل والاخلاص.. بل يحتاج الى معجزة.
للاسف، حتى الآن ما نزال نقف على مدرجات “المتفرجين”، بعضنا لا يصدق ما يجري من تحولات في مجتمعنا، وبعضنا لا يريد ان يصدقها، وكل ما نتمناه ان نخرج من دوائر “الانكسار” هذه مهما كانت اسبابها، وان نواجه “حالة” مجتمعنا بما يلزم من اسعافات وادوية “سياسية” ومن استبصار وحكمة، فما نراه ليس “مزحة” ثقيلة الدم كما يصورها البعض، وانما “جدّ” لا هزار فيه!
الدستور 2017-09-11