الديني والسياسي وجا لوجه..!
ثمة من يسأل اليوم: لقد تديّنا منذ قرون، ولم نعدم وجود الاتقياء بيننا والمصلحين الصالحين، كما لم تعدم مجتمعنا سمة “الايمان” ووازع الخشية والخوف من الله تعالى، فلماذا لم تتحضر امتنا وبقيت - دون سواها من الامم - في آخر “القائمة” الحضارية.. لماذا ظلت “ضعيفة” مهزومة.. وعالة على غيرها رغم ان “ديننا” هو الباعث على التقدم والنهضة والحضارة.. هل المشكلة في “تديننا” أم في فهمنا للحضارة ام في توظيفنا للدين في اتجاهات لا علاقة للدين بها.. بقدر علاقتنا نحن البشر بترتيبها ومعرفة ما نحن ادرى به من غيرنا في شؤون الدنيا وقضاياها المتجددة؟.
وثمة من يسأل ايضا: الان وصلت بعض الحركات الاسلامية الى السلطة، و”تأسلم” الحكم، فهل ستتغير احوالنا، ام ان “وصفة” التدين هذه التي نتابع بعض تطبيقاتها في المجال السياسي على الاقل عاجزة عن تغيير احوالنا؟
يبدو ان سؤال “التدين” ما زال ملتبسا، فهل من مصلحتنا مثلا ان نقحم “الدين” في المشهد السياسي رغم اننا لم نمتلك بعد “ارادتنا” الحرّة، ولم نحسم خيارات الديمقراطية الحقيقية التي تناسب مجتمعاتنا، ولنفترض مثلا ان هذا التدين السياسي عجز او فشل في تقديم ما كنا نعرفه من “نماذج” نظرية للدولة المدنية او “للحل الاسلامي” لكل مشكلات الناس او للعلاقة مع الاخر، ايا كان هذا الاخر، او لم يحقق “مشروع” النهضة او حتى الدولة والمواطنة.. ترى من يتحمل عندئذ مسؤولية ذلك.. وهل سيحكم الناس على “الاسلاميين” فقط وتجربتهم او على الدين ايضا.
لقد نجح “السياسي” في جرّ “الديني” الى معمعة “الصراع”، وأقحمه في “لعبة” الصدام، ووظفه لتمرير “أجنداته” وتسويغ مقراراته، وبدل ان يكون “عالم الدين” ممثلاً للامة وناطقاً باسم “ضميرها العام” أصبح “ناطقاً” باسم السلطة او باسم المعارضة، وعندئذ وقع “العامة” من الناس في دائرة “الحيرة”، فمن يصدقون، وبمن يثقون، ما دام أن كل واحد من العلماء يقدم حجته باسم الدين، ويفتي بالنيابة عن الله تعالى، ويا ليت ان الاختلاف بينهم على مسألة “فقهية” يكون فيها الاختلاف رحمة ويسراً للناس، ولكنه – للاسف – اختلاف على “الاولويات” الكبرى والنوازل التي تتعلق بمصير الامة، وحياة الناس، ومكانة الدين ودوره ايضاً.
كان يمكن “للديني” أن يحافظ على “استقلاليته” وأن يمارس دور الداعية لا دور القاضي، ودور “الجامع” لا دور” المنحاز”، فالسياسة تحتمل الخطأ والصواب، فيما الدين علاقة بين الناس وخالقهم لا يحق لاحدٍ اختراقها او الحكم عليها، لكن ما حدث قلبَ هذه الثوابت والمفاهيم، ووضع “الدين في مواجهة السياسة” والعكس ايضاً، ومع انه لا يخطر في بالنا الدعوة الى الفصل بين الطرفين، الا ان الدمج بينهما يحتاج الى “قواعد” ومعادلات واضحة، والى فهم حقيقي لمقاصد الدين والتزام بها، وفهم والتزام ايضاً بأولويات السياسة وضروراتها، وهذا للأسف ما نفتقده في كثير من تجاربنا، لا سيما المعاصرة منها.
صحيح، الاسلام دين ودولة، والسياسة جزء اصيل فيه، وقيمه ومفاهيمه التي تدعو للعدل والحرية والحكم النظيف والسماحة.. تصلح لكل زمان ومكان.. لكن السؤال هل وصلت حالة “التدين” الى فهم حقيقة هذا الدين وممارسته على الارض.. وهل اقحامها في السياسة وهي كما هي مفيدة لنا.. او تليق بديننا الحنيف؟
الدستور 2017-09-15