حتى لا نكون نعمل ضد أنفسنا

تجري عمليات إفشال بوعي أو بدون وعي للمدن والتشكيلات الاجتماعية؛ تشتت فاعلية المواطنين وقدراتهم وفرصهم على التجمع المستقل حول مواردهم ومصالحهم، وتجري هيمنةٌ على الثقافة والفنون والرياضة والمعابد، تحول بينهم وبين التشكل الاجتماعي والثقافي الملائم، والذي يرقى بحياتهم وسلوكهم ووعيهم، ويجدّد مواردهم ويعظمها. وتتحول المؤسسات التعليمية إلى ورش للتنميط وتفريغ الناس من مواهبهم وقدراتهم على التعلّم والارتقاء. وتتحول الخدمات الصحية إلى عمليات نهبٍ للموارد العامة بلا فائدةٍ تعود على الناس، بل لخدمة جماعاتٍ احتكاريةٍ من المستثمرين وحلفاء وشركاء من القطاع الطبي المهني المفترض أن يكون قطاعاً نبيلاً منذوراً لصحة الناس وحياتهم. وتتحول الرعاية الاجتماعية إلى حفلاتٍ وأنشطةٍ للعلاقات العامة، ونهب للمعونات الدولية والموارد العامة لصالح شلةٍ أنيقةٍ ومتعجرفة.
والأسوأ من ذلك كله أنه يغلب على المجتمعات والمواطنين عدم الإدراك لمصالحهم، وعزوفهم عن العمل في الاتجاه المفترض أن يؤدي إلى تشكلهم وتنظيمهم حول أولوياتهم، وفي ذلك يزداد العمل الإصلاحي صعوبةً، فالأحزاب والجماعات السياسية والاجتماعية الإصلاحية لا يُفترض أن تعمل بالنيابة عن المجتمعات، ولا يمكنها أن تقوم بواجباتها ومسؤولياتها، لكن العمل الإصلاحي السياسي والاجتماعي يركّز دائماً، في محتواه وأهدافه، على الارتقاء بالمجتمعات، وبناء قاعدةٍ اجتماعيةٍ واسعةٍ وملائمةٍ للإصلاح. هكذا، فإن تنظيم المجتمعات وحشدها باتجاه الإصلاح يبدو، اليوم، عملية يائسة، وإنه لمن العجب كيف يندفع الناس في بطولةٍ وحماسةٍ إلى ما لا يضر ولا ينفع، لكنهم يتقاعسون عن التجمع السلمي والعقلاني لأجل كرامتهم وتحسين حياتهم.
مبتدأ السؤال كيف تتحول المنافسة السياسية إلى تنافس بين النخب وليس صراعاً بين الطبقات الاجتماعية، أو بين النخب والمجتمعات، وكيف التنافس الاقتصادي بين الشركات والتجار، وليس صراعاً بين السوق والمستهلكين، فالأصل في التنافس أن تتعدّد خيارات المواطنين السياسية والاقتصادية، ويفترض، بطبيعة الحال، أن مصالح المجتمعات والمواطنين والمستهلكين واحدة. ولكن، تتعدّد الخيارات وتختلف التقديرات لتحقيق هذه المصالح، ولا معنى للانتخابات، ولا جدوى لها، من غير وجود هذين الشرطين، بل إنها تتحوّل لتعمل ضد نفسها! ويمكن أن تؤول إلى متواليةٍ من الحالات والتشكلات "الضدية"، مثل أن تتحول الانتخابات إلى صراعاتٍ اجتماعيةٍ طبقيةٍ وعشائريةٍ ودينية، والأسوأ أنها تنشئ ظواهر اجتماعية واقتصادية شاذة، لكنها، على الرغم من شذوذها، تتحوّل إلى قاعدةٍ راسخةٍ، تقوم حولها مصالح وطبقات. ما الذي يحدث، عندما يكون الفشل مصلحةً لطبقةٍ من النخب؟ تتحوّل السياسات والتشريعات إلى إفشالٍ مقصودٍ وبوعي مسبق، وهكذا يكون الفشل محمياً بتشريعاتٍ وعلاقاتٍ ومنظوماتٍ مستقلةٍ عن الحراك الطبيعي المفترض للمجتمعات والأسواق، ولا يعود الإصلاح عملياتٍ تلقائية في المواجهة مع الفشل أو الجدل حوله، وفي شأنه، بالنظر إلى نقص المعرفة أو المهارات أو العجز عن إدارة الموارد بكفاءة ونزاهة، لكن الإصلاح يتحوّل إلى مواجهة غير متكافئة مع الإفشال، ويتحوّل غالباً إلى متاهةٍ ومحاولاتٍ يائسةٍ لتفكيك التحالفات والتشكلات الفاسدة الخفية والمعلنة، أو التمييز بينها!
الغد 2017-09-16