"شجار أطفال في روضة"
وصف وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الحرب الكلامية الدائرة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، بشجار في روضة أطفال، وعلى رغم أن الحرب الكلامية الدائرة في اقصى العالم لا تكتفي بالكلمات وحدها بل تتخللها صواريخ ساخنة طارت فوق المياه العميقة، فإن التطورات في هذا الجزء من العالم تشير الى جانب مهم من تحولات السياسة الدولية ونمط القيادات والمصالح التي تدير العالم.
الزعيم الكوري جونج أون الذي تولى الحكم في 2011 ولم يتجاوز الثلاثين لا يختلف كثيرا عن موجة الزعماء الشعبويين التي تجتاح العالم مع اختلاف الظروف والمحددات السياسية والثقافية التي جعلت بعضهم يأتي بصناديق الاقتراع بينما الاخر جاء باعتباره "الوريث الأعظم"؛ فحوار الحرب الكلامية الدائرة بين زعيم أقوى ديمقراطية في العالم وزعيم اكثر دولة استبدادية عرفها التاريخ المعاصر يختصر المشهد ويشير إلى أين يذهب العالم؛ الزعيم الكوري يصف الرئيس الأميركي بأنه "كهل ومختل ذهنيا" ويرد عليه الأميركي بأنه "رجل مجنون". وبينما يرد الكوري بأنه "سيروض عجوز الولايات المتحدة المختل عقليا بالنار". يصف ترامب المشهد الدرامي بأن "رجل الصواريخ في مهمة انتحارية".
الدبلوماسي الروسي المخضرم الذي عاصر أزمنة التحولات في الدبلوماسية الدولية من الحرب الباردة إلى القطبية الأحادية إلى الوضع الدولي الراهن حينما يصف الصراع الاميركي الكوري الشمالي بشجار الأطفال فإنه يدرك أن نمطا غير عقلاني يقود السياسة الدولية في هذا الوقت يقوم على تراجع دور المؤسسات والنخب والعقلانية والرشد لصالح الأفراد والشعبوية وردود الأفعال النزقة، ما يستدعي بالفعل سؤالا بات يتردد منذ أيام الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وبات يتعمق؛ من يقود العالم اليوم؟
العالم دخل بالفعل مرحلة أشبه بالفوضى وضعف الانضباط الدولي خلف الدولة العظمى، أي تشتت الوظيفة القيادية، ولاحظ العالم كيف فلتت العديد من الملفات من يد الولايات المتحدة ليس فقط في الصدام المباشر مع روسيا الاتحادية حول أوكرانيا وجزيرة القرم بل مرورا بالملف النووي الايراني والاتفاق الشهير الذي وجدت القوة العظمى نفسها مضطرة له، وحتى التحولات في المحيط الهادي وتنامي الدور الصيني في العالم مع صعود اليوان الصيني وبداية التداول الموسع به باعتباره عملة دولية جديدة منافسة باتت جاذبة للصفقات الكبرى، وصولا الى النجاح الروسي الراهن في حسم الازمة السورية بالطريقة التي تجري فيها الأحداث هذه الأيام.
العالم ينتقل بسرعة كبيرة من فكرة المراجعات العميقة إلى مرحلة من السيولة الاستراتيجية والفوضى السياسية وربما الفوضى العسكرية في الوقت الذي يتراجع فيه الانضباط الدولي خلف القوة العظمى؛ وهي مرحلة تشبه المراحل التي سادت قبل الحروب الكبرى وانهيارات النظم الدولية، ولا يمكن فهم كل هذه الفوضى التي تتجاوز التوقعات بدون الذهاب عميقا نحو التحولات التي تشهدها المجتمعات بصعود القوميات والشعوبيات الجديدة واستهلاك مفرط للتكنولوجيا والإعلام الجديد وعلاقة كل ذلك ببروز أنماط جديدة من التعبيرات السياسية التي تأتي بها الصناديق وأدوات الديمقراطية، وسمات جديدة للطبقة الوسطى في أنحاء مختلفة من العالم، ما قد يجعل شجارات الأطفال الشرسة سمة لعصر قادم تعصف به أنماط جديدة من صراعات المصالح والشغب والعواطف المضطربة.
الغد 2017-09-24