المدن والدين والاحتكار والهيمنة
في تشكل المدن وتطورها يلاحظ لويس ممفورد "المدينة على مر العصور" أنها تحولت من ساحة ديمقراطية يلتقي فيها الناس للعبادة والترفيه والتجارة إلى مكان حصين ومغلق يسيطر عليها الحاكم، ويحتكر أقواتها ومواردها، ولعل الدين كما يقول ممفورد قد لعب دورا أساسيا في إحداث هذا التغيير؛ إذ أنه بدون مساعدة طبقة رجال الدين الصاعدة ما كان في مقدور الزعيم الصياد أن يحصل على النفوذ الكبير والسلطات الواسعة التي صحبت ارتقاءه إلى الحكم وبسطت نطاق سيطرته. وكثيرا ما كان الكاهن والحاكم يجتمعان في شخص واحد. لم يكن بناء المعابد أو إعادة بنائها مجرد مظهر صوري للورع، بل كان دعما ضروريا للحق الشرعي في البقاء والاستمرار، وتكريس الميثاق بين المعبد والقصر!
كان المعبد يقوم بدور أجلّ قدرا مما يؤديه الحصن والحرس المسلح. وما الحاجة الى القوة والإكراه إذا كانت الطاعة تأتي في يسر واذا كان وجود إله حي بين الناس يكفل لهم الوفرة والطمأنينة والأمن والنظام والعدل في هذه الدنيا والخلود في الآخرة؟
وكان أشد ما في تاريخ المدينة موجبا للأسف وما يزال عارها مقيما بيننا مهما بلغ من شأن الخدمات الجليلة التي نهضت بها المدينة، فمنها قامت كذلك خلال الجانب الأكبر من تاريخها بأداء دور وعاء للعنف المنظم ودور ناقل للحروب، والحضارات القليلة التي تجنبت ذلك إلى حين هي تلك التي احتفظت بأساسها القروي، واستسلمت دون استخدام للقوة إلى قيادة مركزية رحيمة في مظهرها. وقد نستطيع الذهاب إلى أبعد من ذلك فإن المدينة ذات الأسوار لم تقف عند حد أنها وفرت لمطالب الحكام وأوهامهم كيانا جماعيا دائما، وبذلك زادت الريبة والعداء وعدم التعاون، بل إن إيغالها في تقسيم العمل والتفرقة بين الطبقات جعل الفصام امرا عاديا، على حين أن إمعانها في فرض أعمال إجبارية على جانب كبير من سكانها المستعبدين وفر عوامل تكوّن العصاب القهري، وهكذا فإن المدينة القديمة بحكم تكوينها ذاته عملت على أن تنقل للأجيال التالية كيان شخصية جماعية تعتبر الآن مظاهرها المتطرفة أعراضا مرضية إذا ظهرت في الأفراد، وما نزال نرى هذا الكيان في عصرنا.
كانت الحياة وراء أسوار المدينة تقوم على أساس مشترك راسخ رسوخ العلم ذاته، إذ أن المدينة لم تكن إلا موطن إله قوي قادر، ولولا القوى المقدسة التي كان يحتويها القصر وحرم المعبد لكانت المدينة القديمة بلا هدف ولا معنى، وذلك أنه ما إن أقام الملك دعائم هذه القوى واتسع نطاق الاتصالات وتوحدت آداب السلوك بحكم القانون حتى ازدهرت الحياة في المدينة على نحو لم يكن هناك أمل في إدراكه في أي مكان آخر، وما بدأ في شكل سيطرة انتهى إلى إخاء وتفاهم على أساس من التعقل والروية.
وبدون ما كان للمدينة من قوى دينية فإن السور وحده ما كان ليتسنى له النجاح في تكوين خلق أهل المدينة وكذلك في السيطرة على وجوه نشاطهم، ولولا الدين وما صاحبه من الطقوس الاجتماعية والمزايا الاقتصادية؛ لكان السور قد حول المدينة إلى سجن لا مطمع لنزلائه إلا القضاء على حراسهم والنجاة بأنفسهم.
وأفضى نمو الوعي في المدينة إلى ظهور بداية السلوك الأدبي الناجم عن التدبر والروية، مع ازدياد انشغال المجتمع بسبب اتساع آفاق التجارة والصناعة باطراد أصبح الدور الذي كانت المدينة تقوم به بوصفها موئل القانون والعدل والحق والمساواة مكملا للدور الذي تؤديه بوصفها مظهرا دينيا يمثل الكون، ومن ثم أصبح يتحتم على من يريد التظلم من عادة لا يبررها العقل؛ أو من عدوان لا يقره القانون أن يلجأ إلى ساحة القضاء في المدينة، ومع ازدياد الشعور بخيبة الأمل في الداخل ازداد الاتجاه نحو مضاعفة أعمال العدوان في الخارج فإن شعور الاستياء من الحاكم الجائر، كان يمكن الإفادة منه بتوجيهه ضد العدو الخارجي.
الغد2017-09-30