المدينة بما هي إعادة تشكيل الإنسان
لقد تطورت المدينة وتشكلت في مآلات تتعارض مع الحكم المطلق والهيمنة الدينية التي سادت لقرون متطاولة، وعرفت البشرية للمرة الأولى مفهوم الحرية كأساس للحكم والإدارة العامة في الدول المدينية اليونانية، ثم تبلور هذا المفهوم في "السياسة المدنية" كما يؤشر عنوان كتاب الفارابي (ت 950م) ثم وعلى نحو أكثر وضوحا في كتاب "الحكم المدني" تأليف جون لوك (1632 – 1704) ومايزال كتاب لوك حتى اليوم مرشدا للحياة السياسية المستمدة من الحرية والمساواة والعدل، ويجب التوقف مليا عند مفهوم "السياسة المدنية أو الحكم المدني" بما هما فلسفة للحكم تقوم أساسا على الحرية والعدل وما ينشأ عنهما من سياسات وتطبيقات وفلسفات تتعارض جوهريا مع مقولات الحق الإلهي والحق الطبيعي أو الطبقي التي قامت عليها الممالك والسلطات والمؤسسات الدينية والامتيازات الاقتصادية والاجتماعية. لقد تحول ذلك إلى صراع بين المؤسسات السياسية والدينية من جهة وبين المجتمعات من جهة أخرى أو إلى صراع بين القلعة والمدينة، وفي هذا الانقسام الواضح بين القلعة والمدينة تبلور مفهوم السياسة المدنية أو الحكم المدني.
لم يكن ذلك مسارا مستقيما وواضحا، لكنه كان مسارا طويلا ومعقدا وممتدا ومليئا بالعثرات. وفي تتبع تطور مفهوم الحرية والديمقراطية على مدى قرون يلاحظ لويس ممفورد كيف استطاع الإنسان الحضري بالعمل والمشاركة وكذلك بالعزلة والتأمل أن يوفر لجانب أكبر من الحياة فرصة الإفادة من ممارسة الفكر والروح الجماعيين ونشاطهما باستمرار، فما بدا على هيئة صراع خارجي مع قوى الطبيعة العادية انتهى إلى دراما داخلية لم تكن خاتمتها أي انتصار مادي، بل إلى ازدياد فهم الفرد لذاته وتطور داخلي أوسع نطاقا. وبنشوء مجالس المدن والتحادث والدراما تشكل تنوع مهني وفكري واجتماعي، ولم تعد المدينة مجتمعا يسوده التماثل التام، وكما جاء على لسان هايمون في مسرحية أنتيجوني لسوفوكليس "مدينة لا رأي فيها إلا لرجل واحد ليست مدينة".
وتمخض تطور المدينة الإغريقية عن اتجاهات عديدة في النظم تبعث على الأمل وتتحرر مما كانت الديانة تذكيه من أوهام فاضحة عن السلطة المطلقة التي لا تحدّ، فقد أقيمت مدنهم على نطاق أقرب إلى طاقة البشر، وتخلصت من ربقة المطالب الجنونية لملوك شبه آلهة، ومن كل ما كانت تستتبعه من وسائل القهر والإرغام وألوان التنظيم العسكري والإداري.
وكانت أثينا بتفوقها في كل ناحية فيما عدا الاستعمار، تمثل جماع هذه الآمال الجديدة، وإن تغلبت عليها في النهاية شرور الحضارة من حرب واستغلال واسترقاق وإبادة، لكن ظل مميزا للحضارة اليونانية أنها قامت على فائض الوقت وليس فائض السلع والموارد. اي الفراغ الحر الطليق من كل قيد غير المخصص للاستهلاك المادي المفرط. بل لاستخدامه في المحادثة والعواطف الجنسية والتأمل الفكري والاستمتاع بالجمال الفني. كما أن المدينة والريف عند الإغريق يؤلفان وحدة منسجمة، ولم يكونا أسلوبين للحياة على طرفي نقيض. ولم تؤسس أثينا مستعمرات برغم أنها اتبعت سياسة تقوم على استغلال المدن الخاضعة لها، وقد رفض قادتها توسعة المدينة لأجل إمكانية تموينها. ومن الملفت أن الشاعر هسيود القادم إلى أثينا من القرية كره الحرب وحمل عليها، لكن أفلاطون الفيلسوف الحضري امتدح الحرب بوصفها وسيلة أساسية لتنمية الفضائل الإنسانية!
لكن القرية أثرت في المدينة في عدم الثقة بالتجار والمصرفيين، بل إن العمل في التجارة كان يفقد المواطن صفته هذه، ولم تسمح إلا مدن قليلة لمواطنيها بمزاولة التجارة، لذلك ظل التجار غرباء. وتشكلت في المدن اليونانية ثلاثة مراكز، للرياضة (الألعاب الأوليمبية) والدين والطب، ما أطلق حالة من الآراء وأساليب الحياة والسمو بالنفس. ونشأ المسرح من الأعياد الدينية، ثم انفصلت الدراما عن الدين، لكنها قطعت صلتها أيضا بالحياة.
تطور الدين في أثينا إلى حالة من النرجسية المنتشية جذلا وابتهاجا على نحو كانت الذات تنظر بإعجاب إلى الذات المطلة على الذات. وفي النهاية انهارت المدينة وأصابها الدمار بسبب إفراطها في الانصراف إلى مزاولة الفنون والشعائر التي أمدتها بالقوة إبان الهزيمة واحتفلت بانتصاراتها. وقام التاجر الأجنبي في الحياة الاقتصادية الإغريقية بدور لا يختلف عن الدور الذي قام به اليهودي في الحياة الاقتصادية المسيحية في مدينة العصور الوسطى، فقد كانت الحاجة إليه قائمة والرغبة فيه معدومة.
الغد 2017-10-14