الاتفاق النووي بصيغته الجديدة ( 6-1)
القنبلة الاعلامية التي أطلقها ترمب بمراجعة الاتفاق النووي تردد صداها في الكثير من المحافل الدولية السياسية والاعلامية؛ وفاضت وسائل الاعلام بالتقارير الاخبارية والتعليقات السياسية والتحليل من مختلف المدارس طوال ليلة السبت؛ الا ان محللا ايرانيا ومن على منصة الفضائية الالمانية دوتشه فيله (DW) لخص الحدث بالقول ما حدث ان الاتفاق اصبح يحمل مسمى (6-1) بدل ان يكون (5+1 )؛ ولعله التعبير الاكثر تلخيصا للمشهد السياسي لاعلان ترمب المتهور المتعلق بالاتفاق النووي.
فالاعلان الامريكي اربك المشهد الداخلي في الولايات المتحدة التي لم تكد تبدأ بالتعامل مع صدمة القرار التنفيذي المتعلق بوقف التمويل لمشروع اوباما كير؛ ليخرج ترمب بقرار الاتفاق النووي اكد فيه رغبته التخلص من ارث اوباما ملقيا اعباء جديدة على الكونغرس وعلى المؤسسات التشريعية والقانونية؛ فخطابه لم يخل من الربط بين اوباما والاتفاق النووي وكأن المسألة شخصية بالنسبة له متجاهلا التبعات الدولية لقراره المتهور باعادة النظر في الاتفاق وبنوده وتحويله الى الكونغرس الامريكي.
التداعيات والتبعات الخارجية للقرار لم تتاخر كثيرا عن التشكل؛اذ اعلنت موغريني ممثلة السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي ان الاتفاق لا يمكن اعادة التفاوض على بنوده؛ كما اعلنت هيئة الطاقة الدولية والامم المتحدة ان ايران ملتزمة بالاتفاق النووي؛ وامتد الامر الى العواصم الاوروبية برلين ولندن وبدرجة اقل باريس ولم تتأخر موسكو وبكين عن رفضها الاستراتيجية الجديدة لترمب تجاه ايران موسعة من مساحة المعركة التي يخوضها ترمب وادارته المتعثرة.
فالاستراتيجية المعلنة لترمب كما اوضح روحاني ليست امرا جديدا بالنسبة لايران فامريكا لم تتوقف عن الاعلان عن نواياها تجاه ايران؛ وطهران لم تأخذ على حين غرة بل بـ» قلة الادب» بحسب روحاني في نهاية المطاف؛ وهو رد قوي من الرئيس الايراني روحاني ما جعل من رده بمثابة صفعة للرئيس الامريكي وبسرعة وبشكل مباغت ايضا مفرغا الخطوة الترمبية من مضمونها الهادف لاثارة اعجاب داعميه من مواطنيه الامريكان واثارة الذعر في طهران بنفس الوقت.
المشكل ليس في العقوبات او الدعوات لاعادة التفاوض واجراء تعديلات في الاتفاق النووي فهي دعوات قديمة لادارة ترمب كما يجمع المراقبيين؛ بل في الاستراتيجية المتبعة لتحقيق هذه الاهداف من خلال السعي لاعطاء جهود تصفية ارث اوباما زخما الى جانب كسب الوقت وايجاد مناخ يسمح بممارسة ضغوط وخلق جدل سياسي داخلي ودولي على امل البدء باجراءات اعادة التفاوض؛ فنقل الملف الى الكونغرس سيوفر 60 يوما تضاف اليها ثلاثون لمناقشة قرار الكونغرس فيما بعد رافعا من مستوى الاجهاد الداخلي الامريكي المنشغل بملفات كبيرة والمقبل على انتخابات برلمانية نصفية العام المقبل.
فالاستراتيجية الحقيقية لترمب تتلخص في خطة العمل المرتبطة بالاهداف غير المعلنة؛ والتي تعكس شخصية ترمب كمفاوض وكرجل اعمال لتحقيق بعض المكاسب المتوهمة؛ استراتيجية مليئة بالثغرات والعيوب الخطيرة لافتقادها للحكمة والحس الاستراتيجي؛ فامريكا ليست شركة عابرة للقارات تتفاوض على عقود تجارية بل دولة مؤسسات تخضع لمنطق الديموقراطية والانتخابات و شريك سياسي لعدد كبير من القوى الدولية وتواجهها العديد من التحديات لا يعد الملف النووي الوحيد فيها.
الادارة الامريكية تعاني من العديد من الاشكالات الداخلية والعزلة الدولية بتاثير من عقلية ترمب التجارية الفجة؛ ذلك ان علاقات واشنطن والادارة الحالية بالعواصم الاوروبية ليست في افضل حال وازماتها متعددة الاوجه والاطراف من كوريا الشمالية الى فنزويلا وكوبا والمكسيك؛ والخارجية الامريكية تعيش في تخبط كامل في كافة الملفات وزادها القرار الاخير تخبطا وارتباكا؛ والاهم من ذلك انه اظهر ايران بمظهر القوة الاقليمية التي تتحدى الارادة الامريكية من جديد؛ تحدي يستند الى اسس قانونية واقتصاية وسياسية متينة يصعب الفكاك منها امريكيا.
الازمة الاخيرة مع ايران فاقمت حالة الاجهاد في السياسة الامريكية التي خاضت الكثير من الحروب الدونكيشوتية على صعيد الدبلوماسية الخارجية خلال الاسابيع القليلة الماضية مع روسيا وتركيا والباكستان وكوريا الشمالية؛ اجهاد يعزز ازمتها الداخلية ويعميق الشرخ الكبير في دوائر صنع القرار الامريكي التي لم تعد قادرة على الخروج باستراتيجية متماسك في اي من ملفاتها الخارجية او الداخلية وباتت تتقاذفها الرؤى الاستراتيجية والانضباط لصالح انحيازات والرؤى الايدولوجية لسفرائها كجون باس في تركيا وديفيد فريدمان في الكيان الاسرائيلي.
ترمب ادخل الولايات المتحدة في دوامة من الازمات التي يصعب التعاطي معها بكفائة بفرض مزيدا من الضغوط على بنية النظام السياسي الامريكي ومؤسساته التي تعاني من اختلالات وظيفية مهددا بارهاقه واجهاده بمزيد من الملفات المعقدة مذكرا بحالة الاجهاد والفوضى التي كاد ان يدخل فيها النظام التشريعي والقضائي في بداية رئاسته بمحاولة اصدار قرارات تنفيذية لتعديل ما يقارب الـ 200 قانون وتشريع دفعة واحدة بتاثير من مستشاره بانون حينها امر سرعان ما تداركته المؤسسات ومراكز القوة الامريكية بتعطيله وتطهير ادارته من العناصر الايدولوجية المزعجه؛ فمعركته الداخلية مع ارث اوباما والازمات التي فجرها مع حلفائه واصدقائة الاوربين والاتراك الباكستانين الى جانب خصومه الايرانين والروس والصينين والكوريين الشماليين كلها مؤشرات على ان الادارة الحالية لاتتمتع بالكفائة لادارة الولايات المتحدة الامريكية؛ ناقلة الاختلالات الوظيفية وحالة الاجهاد الى وزارة الخارجية بالدرجة الاولى والكونغرس الامريكي مرة اخرى.
اجهاد تمظهر احيانا في صور طريفة ولكنها مدمرة ومزعزعة للاستقرار الداخلي كاعلانه مؤخرا ضرورة سحب تراخيص وكالات انباء وقنوات فضائية امريكية وضرورة حصول الصحفيين على تراخيص لمزاولة عملهم؛ امر فجر معركة اتسعت لتشمل وسائل اعلام امريكية كانت تحاول ان تنأى بنفسها عن معركة ترمب مع خصومه ومنتقدية.
الضغوط كبيرة على المؤسسات السياسية والتشريعية الامريكية بحيث باتت تعاني من اجهاد كبير يهدد فاعليتها وبنيتها؛ الحال ذاته في علاقة الولايات المتحدة مع حلفائها امر يدفع الكثير من المراقبيين الى التعامل مع الولايات المتحدة الامريكية من خلال سياسة الصبر الاستراتيجي؛ فالجميع بات ينتظر اللحظة التي يعبر فيه النظام السياسي الامريكي عن اجهاده بشكل واضح خلال الاشهر القليلة القادمة حاسما الموقف بدون معارك ومواجهات مكلفة؛ فما فعله ترمب بتحويل الازمة والملف الى الكونغرس الامريكي؛ حول الازمة الى شان داخلي ووفر المزيد من الوقت للمناورات السياسية الى حين يعبر النظام السياسي الامريكي عن اجهاده فالملف الايراني ليس الملف الوحيد الذي يرهق الساسة والمؤسسات الامريكية ؛ والمراهنة اصبحت على مزيد من لازمات يفجرها ترمب مستقبلا بات الرهان الاكثر عقلانية لمواجهة الولايات المتحدة الامريكية من قبل خصومها؛ جاعلا من معادلة(6 ناقص 1 معادلة) عقلانية فالكثيرون يريدون ان تتحول الولايات المتحدة الى رقم سالب في المعادلات والملفات الدولية الساخنة بتحيدها او خفض مستوى فاعليتها.
السبيل 2017-10-15