آخر مواعظ ميكافيللي !!
قد لا تكون اشهر الكتب في التاريخ محظوظة بقرائها، لأن من سمعوا بها او قرأوا سطورا قليلة عنها اضعاف من قرأوها، ومنها على سبيل المثال ملحمة الالياذة، والخطابة لارسطو وجمهورية افلاطون ومقدمة ابن خلدون، وان كنت سأتوقف في هذه العجالة عند كتاب ميكافيللي الذي اصبح اسمه مصطلحا يعني الذرائعية والبراغماتية واخيرا تبرير الغاية للوسائل حتى لو كانت قذرة.
ومن اخطر مواعظ ميكافيللي تلك الموعظة التي تتعلق باستبعاد النخب، والبحث عن الاقل كفاءة واستحقاقا لسببين أولهما ان من يعاني من عدم الاستحقاق يكون كاثوليكيا اكثر من البابا واذا طلب منه ان يقول بأن الكرة الارضية مربعة او شبه منحرفة لا يتردد في ذلك.
وثانيهما ان النخبة مؤهلة بالكفاءة والخبرة للنقد ولها دراية بشعاب التاريخ والقوانين والمفاهيم، وحين قرأت ذات يوم ما كتبه امريكي كان من المتخصصين في العمل على تفكيك الاتحاد السوفييتي من داخله وهو استبعاد النخب واستبدالها بالاشباه، ادركت على الفور انه قرأ ميكافيللي .
ان البحث عن الاقل شأنا او كفاءة او خبرة في اي مجال له هدف واحد محدد هو قلب معادلة التراتبية واستبدال المفاضلة بالمراذلة واخيرا البحث عن الاقل سوءا وليس عن الافضل والاقل قبحا وليس الاجمل، وقد مرّ العرب عبر تاريخهم بمراحل من هذا الطراز خصوصا في الاندلس، ثم دفعوا الثمن وهو انهيار الدولة.
ان مواعظ ميكافيللي عديدة واقلها شهرة لأسباب غامضة بالنسبة لي على الاقل تلك الموعظة حول النفور من النخب واستبعادها، وقد تنبه برنارد شو بحصافته الى ذلك، فكتب عن عقدة سماها عقدة عدم الاستحقاق او استكثار الفرد لما يعطى له بلا مُبررات .
ان العالم الآن بحاجة الى إعادة قراءة امثال ميكافيللي وغرامشي على اختلاف الاطروحات وتناقضها احيانا، وما يجمع عليه اهم المؤرخين هو ان الحضارة وليس الدولة فقط تبلغ خريفها عندما تصبح المعرفة عبئا والوعي حمولة لا تطاق لأن العملة الرديئة عندئذ تطرد العملة الجيدة بعكس الشائع في الامثال !!
الدستور 2017-10-16