تسييل الدول!
-1-
التسييل في الأصل تعبير اقتصادي يعني تحويل أصل إلى نقود من خلال البيع أو التصرّف، ويقال Realizable assets أصول قابلة للتسييل؛ ويمكن بيعها؛ أي تسييلها؛ أو موجودات قابلة للاستبدال؛ أو للبيع، ويقابلها بالانجليزية : realizability وأعتقد أنه كاصطلاح من المصطلحات الجديدة في اللغة العربية، وعلميا غالبا ما يستدعى حين الحديث عن تسييل الغاز، اي تحويله إلى سائل، ولغة تَسْييل : مصدر سَيَّلَ، ويقال: تسْييِلُ الْمَاءِ فِي الْمَجَارِي : إِجْرَاؤُهُ وتَسْيِيلُ الدُّمُوعِ : إِسَالَتُهَا..
وفي تصريف الفعل: سيَّلَ يسيِّل ، تَسْييلاً، فهو مُسَيِّل، والمفعول مُسَيَّل، سيَّل الشَّيءَ : أسالَه، أجراه، جعله يسيل، سيَّل الغازَ : أساله، حوّله من الحالة الغازيَّة إلى حالة السُّيولة، وسيَّل المادّةَ : أسالها ؛ ذوّبها، حوّلها من الحالة الجامدة إلى الحالة السَّائلة.
قال تعالى في محكم التنزيل: وأَسَلْنا له عَيْن القِطْر؛ والقِطْرُ النُّحاس، وقيل أَن النحاس كان لا يذوب فذاب مُذْ ذلك فأَساله الله لسُليْمان .
وقال المتنبي:
نَجَوتَ بِإِحدى مُهجَتَيكَ جَريحَةً وَخَلَّفتَ إِحدى مُهجَتَيكَ تَسيلُ
وقال أبو العلاء قال المعري في شرح البيت: نجوت بواحدة من مهجتك مجروحة: يعني نفسه، وخلّفت مهجتك الأخرى: يعني ولده؛ لأنه في حكم نفسه. تسيل، أي تذوب في القيد؛ وهذا لأنه جعل أبنه إحدى روحيه، كما روي في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فَاطِمةُ بضعة منِّي).
-2-
في ضوء ما تقدم، يمكن فهم مصطلح «تسييل الدول» وهي مرحلة تسبق مرحلة «تفكيكها» وقذفها في دوامة الفوضى، ومن أهم ملامح حالة تسييل الدولة، ذهاب هيبتها، وهز صورتها في نفوس أبنائها، ويعود هذا في الدرجة الأولى إلى تحويل المصطلحات السياسية الدالة على مفاهيم معينة إلى ما يشبه مصطلحات بلا مضمون، إلى حد يغدو ذكرها باعثا على السخرية، كأن يتحدث شخص ما عن «استقلال السلطات» مثلا، وهو يرى تغول إحداها على ما سواها، أو أن يسهب في شرح محاسن العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، في مجتمع تسوده المحسوبية والواسطة، أو أن يحاضر أستاذ جامعي عن أخلاقيات المجتمع الأكاديمي، وهو يستثمر سلطته كأستاذ في التحرش بطالباته، وابتزازهن بالعلامات، وقل مثل هذا عن «اهتراء» أو تهرؤ كثير من القيم والمعاني الجميلة، وتحويلها إلى مضغة في الأفواء، بلا رصيد من الواقع!
عملية تسييل الدول، سواء كانت بفعل صيرورة الفساد وتقادم الزمن، أو بفعل مخطط مدروس جيدا، تؤدي إلى النتيجة ذاتها، حيث يصبح الخطر داهما، فالتسييل حالة لها طابع شمولي، إن ضرب مجتمعا ما، لم يكد ينجو منه أحد، وهو ينذر بالتفكك ، ويمكن أن نلحظ هذه الظاهرة في غير بقعة من بلاد العالم الثالث، حيث تتحول بيئة الدول السائلة إلى حاضنة لكل الظواهر السلبية، ومنها التطرف والإرهاب، ونشوء التنظيمات «الدولاتية» التي تقوم بكثير من وظائف الدولة، بسبب غياب الحالة المؤسسية، لأن الطبيعة لا تقبل الفراغ!
الدستور 2017-10-22