أسبابنا الغريبة للاحتفال..!
في العالَم كله، يحتفل الناس بالنجاح، والفوز، والزواج، والتقدم والبناء. لكنَّ طريقتنا في الاحتفال أصبحت غريبة، لأن أسبابه لدينا أقلُّ بكثير مما ذُكر. إننا نحتفل بمجرد توقف الدمار، وبالشهادة (الموت)، وبما يُمكن أن نسميه مجرد "شرف المحاولة".
كتب ميغان سبيشيا في صحيفة نيويورك تايمز قبل بضعة أيام: "ترددت إعلانات النصر في جميع أنحاء العراق وسورية: الحملات الطويلة لاستعادة المدينة بعد المدينة من مقاتلي "داعش" قد انتهت. لكن المعارك التي تم كسبها بشق الأنفس تركت دماراً هائلا في أعقابها، ويتردد صدى الاحتفالات من فوق أنقاض المباني التي كانت مهيبة ذات مرة. والعراقيون والسوريون يعودون إلى مدن هي مجرد أشباح لمجدها السابق، والتي تفتقر إلى البنية التحتية لبدء الحياة الطبيعية من جديد. والآن، ترتب عليهم أن يتصارعوا مع كيفية إعادة البناء".
وإذن، يجري الاحتفال فوق الأنقاض، إيذاناً برحلة كفاح جديدة من أجل محاولة الاستعادة الطبيعية للحياة المفقودة بكثافة. وبدلاً من الحفاوة بقطع شوط آخر على طريق تقدمي مشرق النهايات، يحتفي مواطنونا بمجرد الإفلات من الموت صدفة، واحتمال البدء من اللبنة الأولى في تشييد بنىً كانت حاضرة ودمرها أهلها، وكأن كل جهود الذين شادوا وعرِقوا على مدى أجيال كانت حراماً.
وأيضاً، يصارع فريق عربيّ لكرة القدم من أجل الوصول إلى كأس العالم، لكنّه يخسر وُيُخفق. ومع ذلك، نحتفل كثيراً ونغني وننشِد ونستقبله استقبال الفاتحين، لمجرد "بذل ما يجب وشرف المحاولة". وفي دول أخرى أكثر اتصالاً بالنجاحات والحياة، سيبكون ويلطمون إذا خسر الفريق الوطني لأن الإخفاق ليس خياراً. أما هنا، ولأن طعم النجاح غاب تماماً مثل طعم الفواكه القديمة والفرح، فإن مجرد قطع شوط ناقص مبتور الرأس في اتجاه النجاح، يعني أننا ما نزال أحياء.
وأيضاً، انتشر شريط فيديو (مثل آلاف الفيديوهات ذات المحتوى المشابه) لأب فلسطيني يودع ابنيه الشهيدين. وكان يقبل الشابين اللذين غادرتهما الحياة، ويهنئهما على الشهادة بصوت عالٍ. وفي الحقيقة دار رأسي وتفلتت الدموع من قلبي وحلقي وحدقتيَّ. أنا أيضاً أبٌ ولي أبناء شباب. ومجرد تصور فقدان الابن –لأي سبب- يصيب المرء بالجنون الحقيقي، فماذا لو كانا ابنين –شابين مثل الورد، دفعة واحدة؟! وكيف أصبحنا مُجبرين على التحايل على فظاعة الموت بالاحتفال باحتمال الحياة الأبدية لأحبائنا الراحلين، ولو أننا لن نراهم ثانية أبداً؟ أولَيس الموتُ هو نفس الموت الفظيع؟!
وأيضاً، كتبت مجلة "الإيكونوميست" ما يشبه المرثية تحت عنوان: "الركام والمتاعب: سوف يتطلب الأمر سنوات لتنظيم الركام في الشرق الأوسط، بسبب العوز إلى مجرفة". وجاء في التقرير، بعد وصف فداحة الخراب:
"الواقع أن المهمة الشاقة المتمثلة في تنظيف ركام الحرب أصبحت واحدة من أكبر العقبات في كفاح المنطقة للملمة أشلاء مدنها المحطمة. ويكمن جزء من المشكلة في أن الحطام يحتوي على قنابل غير منفجرة، ومعادن ثقيلة مثل الزئبق وأنواع أخرى من النفايات السامة، وكلها تحتاج إلى معالجتها ببالغ الحذر. والجزء الآخر هو مجرد حقيقة أن هناك الكثير جداً من الأنقاض".
في الحقيقة، كان جزء مهم من إمكانية الحياة في المنطقة يذهب إلى تنظيف الركام ولملمة أشلاء الأشياء المحطمة، منذ طرد الاستعمارات وقدوم غيرها، والحروب الأهلية وصراعات القبائل وتخريب الأرواح والأوطان. والخبر الجديد أن الأمر يحتاج إلى مزيد من السنوات لإزالة الركام الجديد، ولو أن "المجرفة" غير متاحة!
لا شكّ أن الحياة أقوى من الموت، وأن الناجي من الفناء ربما يحتفل –في قلبه على الأقل- حتى لو كان الباقي الوحيد من العائلة. لكنَّ تعوُّد الإفراط في الاحتفال العلني ببقية حياة في شيء كنا نحنُ سبباً في تجريده من الحياة، يبدو إعلاناً صفيقاً للبلادة وسماكة الدماغ. ومع أن البناء من الصفر أحسنُ من الجلوس البائس على الأطلال، فإنه ليس في الحقيقة ما يستحق الاحتفال في حمل دلاء الإسمنت والحجارة سنوات أخرى، لمجرد إقامة شيء كان موجوداً وجاهزاً بالأمس، ونحن هدمناه. وما نزال في كدح الطريق إلى الاحتفال البعيد بالأسباب العالمية المعروفة: النجاح، والبناء، والتقدم، والحياة.
الغد 2017-10-22