صفقة القرن .. املأ الفراغات..
منذ ان تحدث رجل الصفقات العقارية السابق، رئيس الولايات المتحدة الاميركية الحالي، عن عزمه عقد صفقة كبرى حول النزاع الفلسطيني الاسرائيلي، اسماها صفقة القرن، دون ان يتطرق الى مضمونها او الى خطوطها العامة، لم يصدر عن دونالد ترامب او فريق مفوضيه الى المنطقة (وهم ثلاثة يهود اميركيين يعتمرون قبعات المتدينين)، اي توضيحات عن ماهية ما يعتزم سيد البيت الابيض عرضه على الاطراف المعنية، ولا متى سيتم طرح هذه الصفقة، فيما لم تتوقف التسريبات الشحيحة عن نقل ما يدور في ذهن الرئيس المستغرق في سلسلة طويلة من التحديات الخارجية الملحة، ناهيك عن متاعبه الداخلية المتراكمة.
وتكاد المعلومات الجزئية المتفرقة المتاحة عن صفقة القرن هذه، ان تكون حكراً على المصادر الاعلامية الاسرائيلية، التي رغم حسن اطلاعها على المصادر الموثوقة، وصلاتها القوية بالمراكز الاخبارية ذات الصلة، لم تتمكن من تقديم صورة متكاملة عن الافكار التي تدور في عقل الرجل الذي يصعب التنبؤ بأفعاله وردود افعاله، او تخمين ما قد يفاجئ به الجميع من حوله، الامر الذي زاد من صعوبة الموقف لدى الدبلوماسيين والصحفيين والفضوليين، وكل من يخاطبهم مضمون هذه الصفقة المثيرة لأسوأ التوقعات وأشدها تشاؤماً، خصوصاً لدى من يخشون جرة الحبل بعد ان قرصتهم الافعى الاميركية مراراً.
من بين اهم ما تم نشره تباعاً عن صفقة القرن هذه، ما أوردته القناة التلفزيونية الاسرائيلية الثانية قبل مدة وجيزة، وأعادت عرضه صحيفة مقربة من نتنياهو مؤخراً، ومفاده أن الرئيس الاميركي لا يرغب الدخول في متاهة مفاوضات طويلة الأمد، وأنْ يعلق مجدداً كسابقيه في أوحال الشرق الاوسط، بل يريد تسوية مختلفة عما طرحته كل الإدارات السابقة، في نطاق ترتيب إقليمي أشمل من حلٍّ نصف مرضيٍّ عنه من جانب الفلسطينيين والاسرائيليين، بحيث يتضمن اعترافاً عربياً بالدولة العبرية، مقابل وقف الاستيطان خارج الكتل الاستيطانية الكبرى، وتحسين الأوضاع الاقتصادية الفلسطينية بصورة جوهرية.
ومع أن هناك بعض التفاصيل الاقل أهمية، إلا أن ما هو متاح عن هذه الصفقة لا يشفي غليل المتعطشين لرؤية الصورة الكلية لما جرى الحديث عنه قبل اكثر من اربعة اشهر، وظل لغزاً من الغاز ادارة اميركية تتكتم على خطتها، وتواصل عدم الإفصاح عما لديها من رؤية تقوم على مبدأ الاتفاق على كل شيء أو لا اتفاق على أي شيء، مستفيدة من حرص الجانب الفلسطيني على عدم الاصطدام مع رئيس اميركي حاد وسريع الانفعال، ومن خشية بنيامين نتنياهو، بدوره، قول "لا" للمتهور دونالد ترامب، وفق ما قاله لوزرائه، الذين خابت آمالهم ازاء تراجع المرشح الجمهوري عن وعوده الانتخابية، فيما تستمر الدول العربية المخاطبة بهذه الخطة الغامضة، تجنب الخوض في مياه بركتها الآسنة.
وهكذا تبدو صفقة القرن المطروحة كعنوان صحفي عريض ممتد على ثمانية اعمدة في الصفحة الاولى، كمادة اولية مشوشة، تفتقر الى قصة اخبارية متماسكة، يمكن قراءتها بسهولة، وفهمها بيسر، من جانب المتلقين في هذه المنطقة المزدحمة بفيض هائل من الانباء المتواترة تباعاً عن شتى الحروب والصراعات البينية، المتفاقمة في رقاع كثيرة من هذه الارض المستباحة، الامر الذي يمكن معه طرح سؤال المليون عن ماهية هذه الصفقة، او إحالة المسألة الى المهتمين في العادة بحل الكلمات المتقاطعة، حتى لا نقول اننا امام نص مفكك، على المرء أن يملأ فراغاته، وأن يستكمل من عنده الجمل الناقصة، حتى يتسنى له استنتاج ما تنطوي عليه صفقة القرن هذه من مضامين وافية.
ازاء ذلك كله، فإنه يحسن بكل المتلهفين للوقوف على ما لدى الرئيس الاميركي، الذي رفع الفيتو عن المصالحة الفلسطينية فجأة، أن يمسكوا قليلاً عن التعليق على صفقة تبدو الى الآن مجرد نوايا غير متبلورة بصورة نهائية، وان يكفوا عن التهوين بها، والتهويل علينا بما قد يتمخض عن جبل ترامب من فئران صغيرة، تمر مسرعة ومذعورة من أمام أبصارنا، ولا تترك أثراً لها في فناء البيت، تماماً على نحو كل ما تفتقت عنه أذهان الإدارات الاميركية المتعاقبة، على مدى العقود الطويلة الماضية، وانتهت إلى لا شيء، سوى خيبات الأمل الكبيرة.
الغد 2017-10-27