"الانتفاضة النائمة" فوق أرغفة خبز الأردنيين
المدينة نيوز :- بعد أن فرغت وجدان موسى من شراء الخبز المدعوم من أحد مخابز العاصمة عمّان، أجابت عن سؤال: ماذا ستفعلين عند دخول قرار رفع الدعم عن الخبز المنتظر حيز التنفيذ؟ بالقول: "راح نظل نشتري الخبز، ما حد يقدر يستغني عن الخبز". وتستهلك أسرتها، المكونة من ثمانية أفراد، ثلاثة كيلوغرامات من الخبز يومياً، بكلفة تبلغ نصف دينار أردني (0.71 دولار). لا أحد يستغني في الأردن عن الخبز، فهو ملازم لجميع الوجبات التي تتناولها الأسر، وبالتالي فإن مواصلة شرائه بعد ارتفاع أسعاره، حال أصبح قرار رفع الدعم أمراً واقعاً، لن تتوقف، وسط تقديرات بعدم تأثر كميات الاستهلاك، لكن وجدان تؤكد أن رفع الدعم سيزيد من الأعباء الاقتصادية. ورغم التعهدات المتكررة للحكومة بأن يتبع/ يتزامن رفع الدعم مع تقديم تعويضات مباشرة للأردنيين تغطي فرق الأسعار، إلا أن الأربعينية تنظر بعين الشك إلى تلك التعهدات، وتقول "ولا مرة دعم السلع التي رفعت الحكومة أسعارها استمر. شهر أو شهران بالكثير وبروح الدعم، والأسعار ما بتنزل".
ويشاطر اقتصاديون وسياسيون السيدة شكوكها، وينظرون إليها على أنها مؤشر إلى انعدام الثقة الشعبية بالحكومات الأردنية، بفعل تجارب سابقة في هذا المجال، ويتخوفون من أن يتسبب قرار رفع الدعم عن الخبز بانفجار شامل، أو أقله موجة احتجاجات عنيفة. وتهيئ حكومة رئيس الوزراء، هاني الملقي، الرأي العام لتقبل قرارها "الخطير"، عبر تصريحات وتسريبات صحافية منظمة تدعي وجود تجاوزات خطيرة في ملف دعم الخبز، تصل إلى حد تهريبه إلى خارج البلاد، إضافة إلى مواصلة بث الشكوى من الكلف المالية التي تتحملها الحكومة نتيجة استفادة اللاجئين والمقيمين من الدعم الموجه للسلعة. حقيقة الأمر، أن القرار ليس قرار الحكومة الحالية. فرفع الدعم، أو إعادة توجيهه إلى مستحقيه، إحدى وصفات صندوق النقد الدولي، كما يؤكد الكاتب والباحث الاقتصادي، فهمي الكتوت، موضحاً "تحاول حكومة الملقي تنفيذ ما عجزت عنه الحكومات السابقة". وخطة الحكومة هي نفسها التي لمّح إليها رئيس الوزراء السابق، عبد الله النسور، خلال مؤتمر صحافي في 11 مايو/ أيار 2015، حين قال "ماذا سيحدث لو تم تحرير أسعار الخبز، على أن تصرف الحكومة للمواطنين بطاقات إلكترونية تعوضهم من خلالها عن الفارق في أسعار الخبز الذي سيشترونه بعد تحرير أسعاره؟". لكن النسور الذي غادر الحكومة حاملاً لقب "بطل رفع الأسعار"، لم يجرؤ على اتخاذ القرار، بعد أن رجحت التقارير الأمنية أنه سيواجه احتجاجات كبيرة، على غرار تلك التي أعقبت قرار حكومته، في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، تحرير أسعار المحروقات، ليسلم المهمة "الصعبة" إلى خلفه.
إصلاح الاقتصاد وكلفة الأمن
تبلغ كلفة الدعم الحكومي السنوي للخبز 140 مليون دينار (197 مليون دولار)، للحفاظ على كيلوغرام الخبز عند السعر المحدد منذ العام 1997، والبالغ 16 قرشاً (23 سنتاً). وفيما لا توجد دراسات علمية حول قيمة الوفر الذي سيتحقق من رفع الدعم عن السلعة وتوجيهه للمواطنين، تشير تقديرات شبه رسمية إلى أن السعر سيتضاعف بفعل القرار. وتبرر الحكومة توجهها بإصلاح الاقتصاد الأردني الذي يعاني من أزمة خطيرة، بلغت فيها نسبة الدين العام 95 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن عجز مزمن في الموازنة العامة للدولة. وفي الوقت الذي تواصل فيه الحكومة، المتناغمة بشكل كامل مع اشتراطات صندوق النقد الدولي، معالجة الاقتصاد بلغة الأرقام الجافة، من دون احتساب الكلف السياسية والاجتماعية والأمنية لقرار من هذا الوزن، تحذر مرجعيات أمنية من الإقدام على الخطوة. وتؤكد مصادر سياسية، لـ"العربي الجديد"، أن ورقة تقدير موقف أرسلتها مرجعيات أمنية إلى القصر أوصت بعدم المضي في تنفيذ القرار، محذرة من أثره على الاستقرار، الذي تفوق قيمته أي قيمة مالية. وبحسب المصادر ذاتها، فإنه "يجري صراع بين مراكز صنع القرار حول مستقبل أسعار الخبز".
ويعتقد مدير مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية، أحمد عوض، أن قراراً بهذا الحجم يستحيل أن يمر بهدوء، لكنه يسلم باستحالة الحكم على طبيعة الحركة المتوقعة عند إعلان القرار. ويقول "ستعقب القرار بالضرورة حركة ما. الحكم على قوتها وانتشارها مرهون بظروف تلك اللحظة"، معبراً عن اعتقاده بأن أهم باعث على الحركة التجارب السابقة في تنصل الحكومات من التزاماتها بدعم المواطنين بعد تحرير أسعار السلع. ويرى عوض أن "متخذي القرار الاقتصادي يعيشون حالة غربة عن المجتمع وديناميات تحولاته العميقة، وهم يتعاملون مع الخبز كقضية فنية منزوعة الآثار الاجتماعية والسياسية". أما الكتوت فيعتقد جازماً بأن قرار رفع أسعار الخبز سيحدث "انفجاراً شعبياً كبيراً. السبيل الوحيد للنجاة ألا يتخذ القرار". ويتساءل، في معرض رفضه لتنصل الدولة من مسؤوليتها الاجتماعية، كيف لحكومة زادت الإيرادات الضريبية في الموازنة العامة للدولة بواقع مليار دينار (1.4 مليار دولار)، ألا تقدم 140 مليون دينار للفئات الفقيرة؟
الخبز... تاريخ الغضب
من أشهر صور الاحتجاجات التي عاشها الأردن متأثراً بموجة الانتفاضات العربية، تلك التي حمل فيها مواطنون أرغفة الخبز وقد كتبوا عليها "الجوع = الفقر"، و"أين أنت يا عزيزي؟"، تعبيراً عن رفضهم أن تطاوله موجة رفع الأسعار. وخلال 40 عاماً، قفز سعر كيلوغرام الخبز في الأردن من 5 قروش (7 سنتات) إلى 16 قرشاً (23 سنتاً). وأخطر القفزات حدثت في العام 1996، عندما استجابت حكومة عبد الكريم الكباريتي لإملاءات صندوق النقد الدولي ورفعت الدعم عن الخبز، ليرتفع سعر الكيلوغرام من 14 قرشاً (19 سنتاً) إلى 25 قرشاً (35 سنتاً)، ما تسبب باندلاع انتفاضة عرفت باسم "انتفاضة الخبز"، والتي لم يحد من فعاليتها الدعم النقدي المباشر الذي قدمته الحكومة للمواطنين تعويضاً عن ارتفاع الأسعار. وانتهت الانتفاضة، التي ما تزال حاضرة في ذاكرة الأردنيين، بعد أن قررت حكومة عبد السلام المجالي، التي أعقبت حكومة الكباريتي، أن تثبت السعر عند 16 قرشاً للكيلوغرام الواحد.
ويقول عادل المحاميد، وهو من مدينة معان الجنوبية، أحد معاقل انتفاضة الخبز، إن "الوضع اليوم أسوأ بكثير مما كان عليه الحال سابقاً". والستيني، الذي شارك في "انتفاضة الخبز"، وسبق أن شارك في هبة إبريل/ نيسان التي حدثت في العام 1989، للاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية التي أعقبت بداية علاقة الأردن بصندوق النقد الدولي، يرى أن السياسات الحكومية تواصل النهج ذاته في زرع بذور الغضب في نفوس المواطنين. غير أن المحاميد يعتقد أن الظروف التي أنتجت "انتفاضة الخبز"، وقبلها "هبة نيسان" تغيرت بشكل كبير، بقوله "الناس اليوم مخدرة. الأحزاب ضعيفة وغائبة، القوة الأمنية أكثر عنفاً. لا أحد يتوقع ما سيحدث، لكنني متشائم".
اللاجئون والمقيمون... كضحايا
ويفوق القلق لدى اللاجئين والمقيمين، خصوصاً من طبقة العمالة الوافدة، مستويات القلق لدى الأردنيين، لا سيما أنهم المستهدفون الرئيسيون بالقرار، حسب ما تروج الحكومة. ووفقاً للتعداد العام للسكان لسنة 2015، فقد بلغ عدد سكان المملكة 9.5 ملايين نسمة، بينهم نحو 3 ملايين شخص غير أردني، غالبيتهم من اللاجئين والعمال الوافدين. ويستفيد هؤلاء، مثل الأردنيين، من الخبز المدعوم. وكان أفراد من عائلة معن قريشان، العراقية اللاجئة في الأردن، شكروا االله، في مقابلة مع "العربي الجديد"، لأن "أسعار الخبز رخيصة".
وترى الحكومة أنه ليس من حق اللاجئين والوافدين تناول الخبز المدعوم. وفيما تقضي خطتها المفترضة تقديم دعم نقدي للمواطنين الأردنيين لتعويض ارتفاع الأسعار المنتظر، تسقط من حساباتها اللاجئين والوافدين. ويفند الكتوت حجج الحكومة القائمة على حرمان اللاجئين والوافدين من الاستفادة من دعم الخبز، إذ يشير إلى إقدام الحكومة، مطلع العام الحالي، على توحيد رسوم تصاريح العمل للوافدين بمبلغ 600 دينار أردني (847 دولاراً أميركياً)، بعد أن كانت تراوح بين 250 و350 ديناراً (352 - 494 دولاراً أميركياً)، ويقول: "أحد مبررات رفع رسوم تصاريح العمل استفادة العمال الوافدين من السلع المدعومة، وليس من العدل أن يحرموا اليوم بعد أن دفعوا ثمن تلك الاستفادة". وفي ما يتعلق باللاجئين، يوضح "تحصل الحكومة على أموال مقابل استضافة اللاجئين، وتلك الأموال لا تظهر في الموازنات، ولا تخضع لأي جهة من الجهات الرقابية. وطالما لا تتعامل الحكومة بشفافية في هذا الملف، فإنه ليس من حقها أن تجعله ذريعة لقراراتها. على الحكومة ألا تحاسب اللاجئين، بل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، إن كان هناك تقصير". المؤشرات كلها تصب في صالح مضي الحكومة بقرارها، غير ملتفتة للانتفاضة النائمة فوق أرغفة الخبز، غير أن مصير الخبز ما يزال معلقاً بمصير صراع مراكز صنع القرار.
المصدر : العربي الجديد