حبل العاصمة الجديدة
لا شيء أكثر استقامة من حبل مشدود. وسيشهد بهذا (الطوبرجية)، والمعمارجية، والمهندسون الحاذقون. ولا شيء يبعج المشاعر ويفلطحها إلا مدُّ التصريحات، وشدّها بين خمسة أوتاد.
الذين عبروا شارع الرشيد الشهير في بغداد، وتمتعوا (بستكانة) شاي من مقهى أم كلثوم في أوله، واشتروا كتباً من سوق السرايا في منتصفه. ربما فاتهم أن الشارع كثير الإنحناءات كان مخططاً ليكون مستقيماً كمسطرة جديدة، أو كحبل مشدود بين وتدين.
في عام 1910 أراد حاكم بغداد العثماني آنذاك (خليل باشا جاده سي) أن يشق الشارع، فشدَّ حبلا بين الباب الشرقي والباب المعظم ليكون مستقيما دون أن يحيد يمنة أو يسرة. لكن الحبل شاط بالإنحراف والإنبعاج.
كان يبتعد إذا جاء عند بيت وجيه أو ثري كي لا يهدم السور. وكان يقترب الحبل بجرأة ليأكل بيوت الفقراء الذين لا ظهر لهم، دون خوف أو وجل. وتستطيعون تخيل ما حدث حينما تدققون بمسطرية الشارع الآن.
ابتهجنا بعاصمتنا الجديدة التي استطيع أن أخمن مكانها المفترض، وأنا لست من الخمسة الذين شدوا حبلها المرسوم. لكن ثياب الحيرة تخنقنا. فالتصريحات لم تحترم ذكاءنا أبداً، بل جاءت كمن يريد أن يشاغلنا عن شيء كبير، أو لصرف أنظارنا عن أمر جلل.
الأصل أن يتم الإعلان عن المدينة القادمة (قلم قايم). فهي مشروع نقدره، ونتمنى أن يكون بداية حقيقة لإستراتيجية مفادها (أن نكبّر مقلاتنا)، وأن نجرؤ على المشاريع الكبرى، وألا نخاف من اقتحامها. فالإبل تحمل أثقالها بقوة قلوب أهلها، كما قال أجدادنا.
لكن أن يكون الإعلان بهذه الطريقة الدرامية الفنتازية التحزيرية، فهذا كحبل مشدود حول رقابنا، يضيق آفاقنا، ويجحظ عيوننا. وسيبقى أكثر ما يشنقنا أن حبل المدينة لا يعرف أوتاده إلا خمسة، قد لا يكونون بشرييين. بل فضائيين من كوكب ب 612.
يحق لنا أن نتفهلو: لماذا كانوا خمسة، وليس سبعة؟. ولماذا لم تكن المدينة سداسية الشكل، كخلية نحل تليق بنشاطنا. لا أحد سيعرف بالطبع، فهذا ضرب في ودع رمال النجوم. ولهذا انفتح الباب للمتهكمين ليقولوا: الشكل الخماسي زواياه منفرجة، وهذا فأل حسن وبداية انفراج. لكن زاوياه كبيرة قد (تفلخ) مشيتنا، وتعرقل هرولتنا.
دائما دائما ينسى الذين يودون بناء وطن حقيقي يليق بأحلام وتطلعات أهله، أن الإستقامة سيدة الأشياء. وأن الضبابية تخنق كل مستقيم.
الدستور 2017-10-31