مئوية بلفور..لم يكن قدرا
بمناسبة الذكرى المئوية لوعد بلفور صدر مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر كتاب مهم للمؤرخ الفلسطيني الدكتور جوني منصور حمل نفس العنوان تقريبا؛ "مئوية وعد بلفور-تأسيس لدولة، وتأشيرة اقتلاع شعب".
يوثق الكتاب بالتفاصيل الدقيقة للظروف التاريخية والتطورات السياسية التي مهدت لإصدار الوعد البريطاني للحركة الصهيونية بتأسيس "وطن قومي لليهود" على أرض فلسطين.
يحلل المؤلف في كتابه مواقف وسياسات القوى الدولية المهيمنة إبان الحرب العالمية الأولى وصراع الدول الاستعمارية على اقتسام النفوذ، وتوزيع ممتلكات الإمبراطورية العثمانية لحظة انهيارها. ويتصدر المشهد التاريخي في تلك المرحلة دول أربع هى بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا، قبل أن تبرز الولايات المتحدة الأميركية مع نهاية الحرب الأولى كقوة عالمية جديدة.
الجديد والمثير في الكتاب أنه يرصد بشكل عميق دور الشخصيات السياسية الفاعلة على مسرح الأحداث العالمية في بريطانيا وفرنسا وعلى جبهة الحركة الصهيونية العالمية التي كان لها دور حاسم في ولادة وعد بلفور. ويفرد فصولا لتحليل سلوك هذه الشخصيات ودوافعها وتبدل مواقفها تجاه الحركة الصهيونية، ويلفت النظر إلى النفوذ المبكر للوبي اليهودي في أميركا.
لكن قبل ذلك يلفت الكاتب النظر لنفوذ الحركة الصهيونية في روسيا وألمانيا والدور الحاسم الذي لعبته في بناء السردية الصهيونية التي اكتملت هويتها في بريطانيا على يد حاييم وايزمن.
ومن خلال الرحلة التاريخية التي يتتبع منصور مراحلها يخلص المرء إلى حقيقة مرة ومفادها ببساطة أن "وعد بلفور" كان يمكن أن لايكون لو أن الحركة القومية العربية الصاعدة في ذلك الحين بذلت نصف الجهد الذي بذلته الحركة الصهيونية لنيل الوعد من بريطانيا.
كانت الاتجاه العام لليهود في العالم معاديا للحركة الصهيونية، ومثله التيار العريض من السياسيين الإنجليز. وفي مواجهة حاييم وايزمن وامثاله من دعاة الصهيونية كان هناك قادة كبار للجاليات اليهودية يعارضون بقوة فكرة الوطن القومي لليهود. عائلة روتشيلد التي منح الوزير بلفور أحد أبرز رموزها الوعد المشؤوم كانت منقسمة على نفسها حيال الفكرة.
وأكثر من ذلك كان هناك نقاش جدي حول خيارات بديلة من فلسطين لتكون وطنا لليهود مثل الأرجنتين وكينيا وسواهما من المناطق. وقد ناقشت حكومة بريطانيا مشروعا متكاملا بهذا الخصوص. ما يعني أن الرواية الصهيونية المزعومة عن الحق التاريخي لليهود في فلسطين لم تكن حاضرة أبدا، وجرى تلفيقها في وقت لاحق لتبرير اغتصاب فلسطين وتشريد أهلها.
لكن في غياب رواية عربية في الساحة الدولية تمكّن بضعة أشخاص أذكياء من اليهود من تجنيد ساسة كبار وشراء شخصيات مؤثرة في مراكز صناعة القرار العالمي، مستثمرين صراع القوى الاستعمارية على اقتسام النفوذ.
لقد بنت الحركة الصهونية رواياتها لإقناع حكومة بريطانيا بدعم حقها في وطن قومي في فلسطين على فكرة وظيفية انتفت قيمتها تماما مع نهاية الحرب العالمية الثانية أي بعد عقدين على صدور وعد بلفور.
كانت الفكرة التي صاغها وايزمن وتحمس لها ساسة بريطانيا، ان اليهود يمكن أن يكونوا "مادة استعمارية" لتحقيق مشروعها التوسعي في المنطقة، وان ما يعزز مصالحها لحماية قناة السويس ويفصل بينها وبين مناطق النفوذ الفرنسي والروسي هو "إنجاز مشروع إقامة دولة حاجزة وعازلة، وهذه الدولة الحاجزة هى الوطن القومي اليهودي في فلسطين".
لم يبقَ من هذا الإرث الاستعماري لبريطانيا أي شيء في المنطقة، بعد أن انهارت إمبراطوريتها وورثتها الولايات المتحدة في المنطقة، وحتى قناة السويس التي حاربت من أجلها خسرتها أيضا. فقط "وعد بلفور" ظل حاضرا كشاهد حيّ على تاريخ بريطانيا الاستعماري.
الغد 2017-11-01