تفاهمات أميركية روسية دون استراتيجيات في سوريا
لم تتجاوز الرؤى والتصورات الأميركية الروسية حول النزاع المزمن في سوريا حدود التفاهمات الميدانية الآنية التكتيكية والشعارات والعناوين الاستراتيجية الجذابة بضرورة الحل السياسي واستبعاد الحل العسكري، الأمر الذي يكشف بما لا يدع مجالا للشك غياب أي استراتيجية أميركية أو روسية منفردة أو مشتركة حول مستقبل سوريا، ولا يعدو الحديث عن حل سياسي مستقبلي مجال الرطانة البلاغية وفلسفة المقاولة وشراء الوقت.
التفاهمات الأميركية الروسية الوحيدة في سوريا تستند إلى القضاء على «الإرهاب» دون تحديد ماهية «الإرهاب» وهوية «الإرهابيين»، فالمنظورات الأميركية الروسية تختلف في تعريفاتها للمصطلحات والمفاهيم، لكن الاستراتيجية الجزئية التي يتفق عليها الجميع تقوم على محاربة تنظيم «داعش» وتدميره من خلال القوة العسكرية المفرطة، وهي النقطة الوحيدة التي لا تختلف حولها الأطراف نظريا وتتبادل الاتهامات عمليا بترديد ادعاءات تتهم بعضها بعدم الجدية في محاربة «داعش».
أخيراً اتفق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي دونالد ترمب، في بيان مشترك، على أن روسيا والولايات المتحدة ستواصلان العمل سويا لمحاربة «داعش» الإرهابي حتى تدميره بالكامل، وجاء الاتفاق بين الزعيمين الروسي والأميركي في 11 تشرين الثاني الحالي على هامش قمة «آبيك» في فيتنام، على ألا يكون هناك حل عسكري للأزمة في سوريا، وأكدا الالتزام بسيادة سوريا واستقلالها وسلامة أراضيها، وحث البيان، كل أطراف الصراع السوري على المشاركة بفاعلية في عملية السلام بجنيف، مؤكداً أن التسوية السياسية النهائية في سوريا يجب أن توجد في إطار جنيف.
في سياق السباق المحموم للسيطرة على محافظة دير الزور في شرق سوريا، تكاثرت الأطروحات والاجتهادات حول مناطق النفوذ الأميركية والروسية وتنامى الحديث عن تفاهمات واتفاقات تبشر باستثمار الوضعيات الميدانية الجديدة لخلق وقائع جديدة تمهد لصفقة سياسية تعمل على التوصل لحل نهائي، إلا أن كافة المؤشرات لا تظهر أي نية للولايات المتحدة للدفع باتجاه تغيير سياسي في سوريا، وتكشف عن غياب أي تصورات استراتيجية أميركية سياسية تجاه سوريا.
رغم تأكيد الرئيسان الأميركي والروسي على أن التسوية السياسية النهائية في سوريا يجب أن توجد في إطار جنيف، إلا أن الوقائع تكشف خلاف ذلك، حيث أن المعارك المنتهية والمنتظرة في سوريا تبرهن على نتائج مغايرة عن تصورات الحل التي أسس لها بيان جنيف في يونيو 2012، أو تلك التي قام عليها اتفاق إطار عملية فيينا في نوفمبر 2015، وقد وضع هذان الاتفاقان ترسيما أساسيا رغم الاختلافات يقوم على بناء عملية سياسية بإشراف دولي تقود في النهاية إلى تقاسم السلطة بين الحكومة السورية وبين المعارضة، إلا أن ذلك كله بات من الماضي فقد انتهت مرحلة المطالبة برحيل الأسد، ودفنت مسألة تقاسم السلطة، وولت حقبة عملية الانتقال السياسي.
المعادلة السورية أصبحت أكثر وضوحا منذ انطلاق محادثات أستانة التي ترعاها روسيا وذلك بإخضاع المعارضة المسلحة وإجبارها على الدخول في مسار حتمي ينتهي بإعادة دمجها في الدولة السورية في ظل حكم الأسد، وكان الرئيس الروسي بوتين قد عبر عن هذا الخيار بوضوح شديد لا لبس فيه حين قال في خطاب أمام منتدى دولي في 19 أكتوبر الماضي: «حالما تتشكّل مناطق خفض التوتر، سيبدأ الناس الذين يسيطرون عليها بإجراء اتصالات مع دمشق، مع الحكومة»، وقد بات هذا التصور واقعا ملموسا يتمتع بقبول أميركي.
رغم التحديات العديدة المنتظرة التي تواجه التفاهمات الأميركية الروسية، إلا أن مسار الأحداث يجعل من بيان جنيف لحل النزاع في سوريا لا قيمة له، الأمر الذي دعا الرئيس الروسي بوتين إلى الإعلان عن «خطة تقريبية» في 19 أكتوبر لعقد «مؤتمر للشعب السوري يلم شمل كل المجموعات الإثنية والدينية، والحكومة والمعارضة»، وهي مقاربة تعيد الاعتبار لتصورات النظام السوري لطبيعة الحل من خلال التأكيد على عدم الحاجة إلى وساطة الأمم المتحدة وإلى أي حل دبلوماسي خارجي للنزاع.
لا تزال ثمة معارك منتظرة للتوصل إلى صيغة نهائية للوضع في سوريا، إلا أن مقاربة النظام السوري باتت مقبولة دوليا وإقليميا، حيث برهنت خطوة الاستفتاء على استقلال كردستان العراق على استحالة استقلال أكراد سوريا في روج آفا، الأمر الذي يلجم طموحات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ويدفعه نحو التفاوض على صيغة باهتة من الحكم الذاتي، فروسيا تفتقد إلى مايكفي من النفوذ لإجبار نظام الأسد على قبول تسوية سياسية وفق شروط قد يعارضها بقوة، لكنها سوف تسعى إلى لجم اندفاعه إلى حرب مع قوات سورية الديمقراطية لأطول فترة ممكنة حسب يزيد صايغ.
أحد المعارك المنتظرة للنظام العام القادم ستكون مواجهة هيئة تحرير الشام في إدلب، وهي معركة تنتظر المزيد من التوافقات مع تركيا، لكنها حتمية وتشكل نهاية المواجهات العسكرية التقليدية، حيث ستبرز دينامية جديدة للصراع المسلح تقوم على نهج حروب العصابات، وتلك مسألة تتطلب استراتيجية مختلفة ونهج مختلف عما شهدته سوريا خلال السنوات الست السابقة.
خلاصة القول أن النزاع السوري يوشك أن يدخل حقبة جديدة تقوم على نهاية الحديث عن تصورات الحل السياسي حسب بيان جنيف، وذلك بإعادة سيطرة النظام وبقاء هياكله الإيديولوجية والسياسية والعسكرية، وإخضاع المعارضة المسلحة على اختلاف أنواعها، وهي نتيجة منطقية لغياب أي استراتيجية أميركية مختلفة في سورية، الأمر الذي سوف يؤكد أن سوريا ستبقى طويلا ضمن نادي الأزمات التي لا حل لها، حيث تتحول أنماط المعارك والمواجهات من مواضعات الحروب الكلاسيكية إلى تكتيكات حرب العصابات، وهي معارك مفضلة مقاتلي القاعدة وتنظيم الدولة.
الراي 2017-11-13