العرب و"تجنيس" العرب..!
في حوار بين صديقين، أحدهما مقيم في الولايات المتحدة والآخر في دولة عربية، رد "الأميركي" على الآخر الذي يعدِّد "مكاسب" اغترابه، بأن أميركا منحته جنسيتها بكل امتيازاتها، بينما الآخر العربي المغترب في الدولة العربية ما يزال "وافداً" بلا أيّ من مزايا المواطنة. بل إن هناك في أكثر من دولة عربية "سكان" يفترض أنهم أصليون، لكنهم محرومون من المواطنة لمختلف الاعتبارات. وفي حالة المغتربين العرب –الغرباء في بلاد يُفترض أن لا يكونوا فيها مغرَّبين- فإنهم ربما يقيمون في البلد العربي الآخر عقوداً وينجبون فيها أولادهم ويشيخون، ويظلون مغتربين. وفي الأساس، يعني مجرد وجودهم هناك أن لديهم شيئا تحتاجة الدولة المضيفة، يسهمون به في مشروعها ولا غنى عنه. لكن طول الإقامة وأي خدمة تُقدّم لا تعني تقدير مساهمته إلى حدّ احتضانه بودّ.
الدول الغربية التي تمنح الجنسيات للذين يعملون ويعيشون فيها ليست غبيّة. ومع كل الحديث عن رفض الغرب التعددية الثقافية، وكراهيته الأجانب ومناهضته المهاجرين، فإن القوانين والعقلية السائدة هناك تسمح بالتجنيس كل الوقت. وكنّا نسمع منذ زمن أن الجامعة أو المؤسسة الغربية إذا وجدت طالباً أو موظفاً متميزاً في الكفاءة، عرضت عليه هي جنسية البلد حتى لو لم يطلبها. والفكرة دائماً هي إغناء البلد وتعزيز تقدمه. ولنتأمل أسماء العلماء ورجال الأعمال والأكاديميين –وحتى الساسة الذين وصلوا رئاسة دول- من "الغرباء" الذين لمعوا في تلك البلدان، من العرب إلى الهنود والأفارقة والصينيين وكل ملة وجنس. هناك، ليست الجنسية شيئاً مقدساً أو مُعطىً قَبْلياً يُعطى للناس مثل الهبة الإلهية، وإنما هي شأن عملي يخضع لحسابات دنيوية. والذي يفصل فيه هو القوانين والعقل، وليس العواطف الشوفينية.
في البلدان العربية، ليس هناك الكثير من محاذير الغرب. ليس هناك شيء اسمه "تعدد الثقافات"، لأن الثقافة واحدة. وليس هناك شيء اسمه "اختلاط الأعراق"، لأن العِرق واحد تقريباً. وليس هناك شيء اسمه "خطر الدّين المختلف"، لأن العقيدة السائدة تقريباً واحدة. ومع ذلك، يتحدث بعض العرب عن "نقاء العرق"، وينطوون على نوع من الشعور بالتفوق "العرقي" المختلق على مواطنيهم. وهناك الانطباع المكرّس في نفسية معظم المجتمعات الغنية بأن المغترب فيها شبه متسوِّل، يُمنَح عملاً يعيش منه، ويحوِّل نقود البلد إلى خارج عربي ما.
في المستوى الأعقد، يتعلق الأمر بالتوازنات الطائفية أو الدينية أو الفئوية التي لا تريد أنظمة لها أن تختل، ودائماً لحساب طائفة أو طبقة أو فئة على حساب أخريات. ولذلك، لا تمنح بعض الدول العربية الجنسية لأفراد أصليين بكل التعريفات العالمية، بما في ذلك حق الولادة والإقامة أباً عن جد. لكن الأسوأ في موضوع الجنسية، هو طبقية المواطنة في معظم التكوينات العربية. وفي هذه التكوينات، تتمتع بعض فئات "السكان" بجنسية اعتبارية، مسجلة على الورق دون الوصول الفعلي إلى ما ينبغي أن تكفله الجنسية، لغرض حفظ امتيازات وإدامة معادلات، في ازدراء صريح لمبدأ حكم القانون والمساواة.
إننا نشاهد مباراة كرة قدم لمنتخبات دول مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا، فنندهش من ألوان وأصول اللاعبين الذين يضعون أيديهم على صدورهم ويرددون الأناشيد الوطنية لتلك الدول، ويصنعون لها السُّمعة والفوز. وفي المقابل، يتمسك العقل السياسي العربي بالصغائر على حساب ما هو عملي ومفيد. فالولاءات للأوطان ليست بالضرورة شيئاً موروثاً بالجينات بقدر ما تتعلق بالأخذ والعطاء والتفاوض. ومن الطبيعي توقُّع أن يوالي الفرد مكاناً يحتضنه ويقدره ويعطيه بالمثل –خاصة وأن انتماء العربي إلى المكان العربي طبيعي ولا يحتاج إلى تطبيع. ويكفي تأمل النموذج الأميركي حيث لا أحد أميركياً أصلياً إلا الهنود الحمر، لكن الكل أميركيون يصنعون أقوى أمة في العالم.
أما في مناطقنا، فالمواطنة محرّمة على العربي في غير الحدود التي ولد فيها –أو حتى في داخل التي ولد فيها هو وجدُّه، حين يُستهدف "سكان" أصليون بالإلغاء المعنوي والجسدي في كثير من الأحيان، بسبب العرق والدين والطائفة، وكأنهم طارئون. وليست هذه وصفة لحرمان الأوطان العربية من طاقات حرامٌ هدرها فحسب، وإنما هي وصفة للتدمير الذاتي والحروب والانفصال والتغريب، حيث لا ينبغي أن يكون أحد غريباً!
الغد 2017-11-16