البلهارسيا الثقافية والإعلامية
الحملة التي تتعرض لها الفنانة المصرية شيرين عبدالوهاب مصريا وعربيا على خلفية تعليق لها على طلب من الجمهور لإحدى أغانيها، اتهمت على أثره بالإساءة الى نهر النيل والى الوطنية المصرية؛ تعد دليلا آخر ضمن سيل من الامثلة التي تشهدها الحياة العامة العربية في تسطيح أولويات الناس واهتماماتهم وفي الشكل والمحتوى الباهت في إعادة تعريف المفاهيم المرتبطة بالاوطان والمجتمعات والقيم الكبرى.
هذه لحظات تاريخية فارقة نشهد فيها الطريقة التي تعمل فيها وسائل الإعلام وأدوات إنتاج وإعادة إنتاج الثقافة على خلق نماذج جديدة من الشعبوية المشوهة. لا يحدث ذلك في مصر فقط بل في معظم البلدان العربية، والمفارقة المحزنة والمحيرة أن هذه النماذج تنتشر أحيانا بأفعال شعبية وقد تكون بدون غطاء رسمي، حيث تعمل القوة التي تمنحها أدواتُ التعبير ووسائل الإعلام الجديدة على تسطيح ما كان يسمى "حكمة الجموع" وتشويه ما تبقّى من قدرات حية للناس ومن إمكانيات لمقاومة الإحباط واليأس بالمزيد من الإنشاء السياسي والغثاء؛ من السهل اغتيال فنان أو مبدع أو مفكر لمجرد مزحة بسيطة ومن السهل اختطاف مجتمع بأكمله وجعله يلهث خلف أوهام أو خرافات أو أحاجٍ، هناك حالة مرعبة من الانقياد خلف غريزة القطيع الجديدة.
ذنب شيرين عبدالوهاب أنها ربطت النيل بحقيقة أن هذا النهر العظيم كان موطنا للبلهارسيا؛ لكي تفتح عليها نيران جهنم من كل الاتجاهات، والمحزن أكثر أن هذه الحملة اكبر من كل ما قيل وكتب دفاعا عن النيل الذي يتعرض لمحاولة اختطاف فعلية نتيجة لمشاريع اثيوبية وافريقية أخرى تهدد مصر بالعطش والنيل نفسه بالجفاف، لا بل جاءت في الوقت الذي فشلت فيه المباحثات المصرية الاثيوبية حول سد النهضة الاثيوبي، وفي الوقت الذي تشهد فيه العلاقات المصرية السودانية منعطفا خطرا حول ملف النيل ايضا حيث تعد التحولات الاستراتيجية الراهنة من اكبر التحديات التي واجهت مصر منذ اكثر من قرن في الدفاع عن النيل وحقوقها المائية.
أدوات التعبير الجديدة تعيد تشكيل الفضاء العام وتغري في إعادة تعريف المفاهيم الكبرى للناس، وأخطر ما يحدث اليوم كيف تغيب الحكمة ويسود التسطيح في التعبير عن الوطنيات بعيدا عن الإنجاز وعن قوة المواطنة وأبسط معاني حرية التعبير.
إن الهويات والوطنيات المشكّلة بعناية والمصاغة حسب قوالب الدولة، هي هويات ووطنيات في خطر ما لم تشهد إنماء يدخل إلى عمق المجتمع وما لم تملك حيوية داخلية تعبر عن التنوع والتعدد وقدرة على التسامح الداخلي. والاستنتاج الآخر الذي لا يقل خطورة، أن الهويات التي تسعى إلى تشكيلها ثقافات متخيلة قادمة من وراء البحار على أكتاف وكلاء محليين لا قيمة ولا أثر لها، إلا في خلق الفوضى المؤقتة.
ان حالة الإحباط والفوات والخبرات المريرة في السنوات الأخيرة ستجعل المجتمعات العربية إلى حد ما أمام نماذج متوحشة من الشعبوية، ومن المتوقع أيضا أن تدفع هذه المجتمعات ثمن شعبوية المجتمعات الأخرى اكثر من غيرها، وتحديدا فيما يتعلق بازدياد قسوة تأثير العلاقات الدولية الظالمة، وازدياد ثقل ملف الاستبداد وتراجع نوعية الحياة.
الغد2017-11-19