ذاكرة السمك، وطبائع البحر!
-1-
لست متيقنا من مدى إطلاع من يصنعون الأحداث في بلاد العرب على ما يجري «تحت» في الشارع، ومدى تفاعله مع ما يقررون ويفعلون، فالعطب الذي أصاب كل شيء تقريبا في وطننا العربي لم يصل حسب علمي إلى مراكز رصد وتحليل تحولات العقل الجمعي والوجدان الشعبي العربي، وإن كنت أشك كثيرا في قدرة هذه المراكز على تحديد ردود الفعل المتوقعة لدى الشعب، أي شعب، مقارنة بعدم قدرة أي من عباقرة العلوم وأجهزتهم على توقع حصول الزلازل في قشرة الأرض، بمعنى آخر، إن عجز العلماء عن تحديد وقت لوقوع الزلزال حتى اليوم، يقابله عجز علماء نفس المجتمعات عن توقع تحرك شعب ما في وقت ما، ردا على فعل أو قرار ما!
ما أعلمه جيدا، أن للشعوب ذاكرة السمك غالبا، ولكن لها أيضا طبع البحر الذي تعيش فيه، ويشكل بيئتها الحاضنة، من حيث غموضه وعمق أسراره، حتى مع توافر كل التقنيات الحديثة، والمجسات شديدة الفاعلية، ثمة ما لا يمكن رصده أو توقعه في حركة البحر، ومتى يهيج في لحظات!
-2-
نشعر أحيانا نحن أبناء الجيل المولود في منتصف القرن الماضي، أننا عشنا أكثر مما ينبغي، أنا مثلا عشت في مهنة الصحافة كل مراحل تطور طباعة الصحف ومونتاجها، ابتداء من تنضيد الأحرف حرفا حرفا، ثم سطرا سطرا عبر آلة جمع الأحرف بتذويب الرصاص، ثم طباعة الأعمدة بالكمبيوتر على ورق خاص وقصها ولزقها، وصولا إلى مونتاج الصفحة بالكامل على الحاسوب، وكذا هو الأمر بالنسبة لكثير من تطور المخترعات، وخاصة وسائل الاتصال، منذ التكرز فالفاكس، والبيجر، والهاتف الخلوي أبو لوكس، وصولا إلى الهاتف الذكي، وما بعده من مخترعات لم تصلنا بعد!
وكما عايشنا ثورة الاختراعات، عايشنا ثورة المفاهيم وتقلبات الأحوال، من نكسات وانتصارات (وهمية غالبا!) وحروب كانت في معظمها أشبه بالتمثيليات، حتى بتنا على قناعة أننا نعيش على خشبة مسرح كبير، على رأي عميد المسرح العربي يوسف وهبي، الذي أطلق مقولته الشهيرة: ما الدنيا إلا مسرح كبير في بدايات القرن الماضي، وفي خضم كل ما جرى ويجري، يقف المراقب الذكي محاولا سبر غور المشهد، وتداعياته، ويوقن أننا اليوم نقف على أعتاب مرحلة تتسارع فيها أحداث «المسرحية» على نحو خرج من بين يدي المخرج والكاتب والممثلين، بل انهارت كل جدران «المسرح» ولم نعد نميز بين جمهور النظارة وبين الممثلين!
-3-
يقال أن سنتنا هذه التي توشك على الرحيل سنة «كاشفة» فعلى الرغم مما كشفته لنا مما كان القوم يحرصون على إخفائه، إلا أنها لم تزل تحمل فيما بقي منها المزيد من الأسرار التي ستفتضح، ويبدو أن من كانوا يحرصون على ممارسة موبقاتهم في الخفاء لم يعودوا حريصين على السرية، ربما لأنهم موقنون أن الشعوب لها ذاكرة السمك، وأنها مشغولة بالفيسبوك واللايكات وتويتر، ومراقبة الأفلام الإباحية، وهؤلاء تحديدا هم من يبشرنا بأن الفرج قريب، ذلك أنهم يتمتعون بخاصية جيدة هي عمى القلب والبصيرة، فضلا عن عمى الألوان، وهم لا يرون ابعد مما بين أقدامهم، بل ربما يمارسون سياسة حرق المراحل، وصولا إلى مرحلة الخراب الكامل، أو وصول الكرة إلى القاع، كي ترتد ثانية إلى الأعلى، في علم المستقبليات، يبدو هذا التفاؤل مبنيا على أحاسيس سرية غامضة غير مبررة علميا، لكننا حين نستحضر تقنية انفجار طنجرة الضغط كلما زادت حرارة النار تحتها، ندرك أننا نقترب كثيرا من لحظة الحقيقة، وثمة مؤشرات اخرى، غير غيبية بالتأكيد، تقول أننا في طريقنا لنشهد المزيد من الأحداث الجسام، وليس كلها بشر مستطير، فحتى فيضان النهر، وتدميره للمزروعات وبيوت الفلاحين الهشة، يحمل لهم في الموسم التالي طميا خيّرا خصبا يحسن من زراعاتهم، ويعد بموسم خير وفير!
-4-
يقول ابن خلدون في مقدمته: وإذا تبدلت الأحوال جملةً، فكأنما تبدّلَ الخلقُ من أصله، وتحول العالم بأسره وكأنه خلقٌ جديد، ونشأةٌ مستأنفةٌ، وعالَمٌ مُحدَث . ويبدو ان قلة من العقلاء يعلمون عمق هذا الوصف، لما جرى في عالمنا، خلال الفترة الماضية، واستحقاقات هذا الفهم ببساطة يقول أننا على أبواب تحول وكأنه خلق جديد، وستعلمون ما أقول لكم ولو بعد حين!
الدستور 2017-11-23