رسائل نقل السفارة
مع صدور هذا المقال يكون قد اتضح ما إذا قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تنفيذ وعده الانتخابي، وترجمة أحاديثه الهاتفية يوم الثلاثاء، مع الملك عبدالله الثاني، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، مبلغاً أياهم عزمه نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والواقع أنّ مجرد الوصول لنقطة اتصال ترامب مع الزعماء العرب، بشأن عزم بلاده نقل السفارة للقدس، أو تحديد خطة لذلك، وبالتالي الاعتراف بالمدينة عاصمة لإسرائيل، يحمل في حد ذاته رسائل بالغة الخطورة والدلالة.
أول هذه الرسائل، تبني الخطاب الديني اليهودي بشأن مزاعم الحقوق التاريخية في القدس. وهذا بدوره عدا عن تغذيته للفكر الأصولي الذي يؤمن بأنّ الصراع صراع أديان، ويجسد مزاعم "الحق الديني"، ويؤكد هامشية القانون الدولي، والمعاهدات، والاتفاقات المبرمة والموقعة لدى الولايات المتحدة الأميركية، ويؤكد أي اتفاق معها أو برعايتها هو اتفاق بلا ضمانة، ولا يمكن التعويل على الالتزام به. وبكلمات أخرى هي رسالة أنّ الولايات المتحدة مستعدة لقبول الحروب ونتائجها وتحويلها لأداة "شرعية"، فالوجود الإسرائيلي في القدس هو نتيجة للحرب وليس لأي قانون أو قرار دولي.
ثاني الرسائل، أنّ فكرة الدولة الفلسطينية، ليست جدية بالمطلق، في الفكر الأميركي، فهناك أولاً انتزاع لجزء كبير من الأراضي المحتلة عام 1967، ولا يوجد منطق فيما قاله ترامب للرئيس الفلسطيني، بأنّ حل موضوع القدس يقلل من العقبات أمام التسوية، ويلغي حالة "توتر" تحدث كل ستة أشهر في موعد بتّ الرؤساء الأميركيين في قانون سنه الكونغرس في تسعينيات القرن الفائت، ويدعو لنقل السفارة الاميركية للقدس، مع منح الرئيس الأميركي حق التأجيل. فمثل هذا القرار يعني استباق نتائج المفاوضات وترسيم الحدود بالطريقة التي يرغب بها الإسرائيليون، وإذا مر القرار فستكون القرارات الأميركية التالية هي الموافقة على ضم مستوطنات، خاصة أن الإسرائيليين سيسارعون لتوسعة حدود القدس لتصل حتى البحر الميت شرقاً، بضم مستوطنة معاليه أدوميم وما حولها. ويعني القرار أيضاً أنه لا داعي لانتظار مفاوضات أو مبادرات سلام، فواشنطن تفرض ما تريد. وستصل الرسالة لشرائح كثيرة حول العالم بأن هجرة الفلسطينيين للكفاح المسلح والاتجاه للنضال السلمي ارتدّ عليهم بنتائج عكسية.
ثالث الرسائل، هي أنّ الشعوب العربية بمسيحييها ومسلميها، لا تعني لدى الإدارة الأميركية شيئاً، سواء من حيث احترام مكانة المدينة لديهم، أو من حيث التحسب لردة فعلهم. وأنّ ترامب لا يتوقع أن القيادة الفلسطينية قادرة على أي رد فعل، وكذلك بالنسبة للمنظمات والمؤسسات والدول العربية والمسلمة.
هذه الرسائل الثلاث، وسواء صدر القرار المذكور كلياً أو جزئياً، أو جرى تأجيله، خصوصاً بعد كل الاتصالات العربية المحذرة، فإنّ الموقف الأميركي بات واضحاً، من حيث تعاطيه مع الخطاب الديني الأصولي التاريخي اليهودي، وحتى لو كان الدافع الحقيقي للرئيس الأميركي هو كسب أصوات مؤيدي إسرائيل من يهود ومسيحية صهيونية، فهذا لا يلغي خطورة استبدال القانون الدولي بالدعاوى الدينية، مع تجاهل المسيحيين والمسلمين وحقوقهم. وهذه الرسائل ستصل، ضمناً، لأجزاء من الشعب الفلسطيني والشعوب العربية كدليل على ضرورة استبدال القانون الدولي والمدني بأدوات مقاومة أخرى من أنواع مختلفة. فمثل هذه الخطوة تضعف رؤساء وقادة، في مقدمتهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي لطالما دافع عن المفاوضات والدبلوماسية والقانون الدولي.
هذه الرسائل يجدر أن تقرع جرس إنذار لدى القادة العرب بأنّ خطر تمرير الموقف الأميركي، (حتى لو لم يتخذ القرار فعلاً) سيكون له انعكاسات عميقة في المستويات الثقافية والشعبية والسياسية العربية، عاجلاً أو آجلاً.
إنّ اعتماد أي شعب على القانون والمنظمات والأطر الدولية والعالمية السياسية والقضائية بات مهدداً أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً بوجود رئيس أميركي لا يمانع بتدمير كل ما بنته الإنسانية باتجاه نظام دولي فيه منظمات مركزية وقوانين دولية تقلل من حدة الميل للحرب والعدوان باسم الدين، وكل ذلك بهدف كسب أصوات انتخابية، وتلبية مشاعر كراهية دينية وثقافية.
الغد 2017-12-07