إعادة تنظيم الجدل الاجتماعي والسياسي
كانت السلطات تملك على نحو واضح أعداءها وأصدقاءها، وبناء على هذا السؤال الأساسي (من العدو ومن الصديق؟) تشكلت الجيوش والأجهزة الأمنية والاستخبارية والمؤسسات والأفكار والثقافة والإعلام والتعليم والفنون والموسيقى والدراما، بل والعبادة والدين أيضاً! ماذا تفعل الدول والمجتمعات اليوم وهي لا تدرك على نحو واضح ومحدد العدو والصديق، أو حين يظهر أن العداء لم يكن في الواقع إلا بين السلطات والمجتمعات!
ماذا تفعل الدول والمجتمعات بعدما فقدت العمليات التنظيمية المؤطرة للعلاقات والقوى والحكم والمعارضة والتوجيه والتعليم والتوظيف جدواها ومعناها؟ الحال أن ما حدث ويحدث اليوم في الصراعات الداخلية هو عجز القلعة الحاكمة عن مواصلة إدارة المدن والمواطنين على النحو الذي استمر لأكثر من خمسة آلاف سنة، والواقع أن القلعة لم تعد قائمة، أو بوصف أدق، فقدت كل أدوات السيطرة والتنظيم التي كانت تملكها؛ وسائل الإعلام والمعابد والمدارس والجامعات والأسواق، لم يعد لديها سوى الأجهزة الأمنية، لكنها مؤسسات لم تكن على مدى التاريخ والجغرافيا قادرة على البطش والقمع من غير إسناد المؤسسات والموارد الناعمة، وغالباً فقد كانت للردع والتنظيم أكثر مما هي للاشتباك الشامل والمواجهة مع جميع المواطنين، كان يكفي القلعة أن تلاحق المعارضة، ويجب أن تكون هناك معارضة في كل الدول والأنظمة السياسية، تلك ضرورة للحكم لتسلك المجتمعات والمدن وجموع الناس في طريق واضح محدد كأنها في طابور مدرسي أو عسكري، لقد كانت كذلك بالفعل في نظام حياتها وعباداتها وما يصل إليها من معرفة وأخبار وما تتعلمه وتقرأه وفي أسلوب حياتها وبرنامجها اليومي من الاستيقاظ إلى النوم.
لكن الأزمة لا تخص القلعة وحدها، بل امتدت إلى الأرباض التابعة والمحيطة، فهي أيضاً لم تعد تعرف كيف تدير علاقتها بالسلطة والأسواق وكيف تدير حياتها وأولوياتها، بل وكيف تفكر وتنظر إلى الأمور، فالمجتمعات اليوم تشبه قصة فتاة أبصرت بعد فترة طويلة من عجزها عن الإبصار، تقول في مقابلة صحفية إنها لا تستطيع أن تعمل أو تمشي أو تتناول شيئاً إلا إذا أغمضت عينيها وتحسست طريقها بيدها أو بعصاها، بل إنها صارت تشعر بخوف كبير عندما تسير في الشارع، وكانت تشعر بحرية وأمان أكبر قبل أن تبصر!
لم تكن السلطة سوى غطاء لتحالف وتشكلات طبقية واقتصادية ومجموعة من المصالح والامتيازات، وفي المواجهة أو معركة الوعي التي أطلقتها الشبكية وجدت المجتمعات نفسها في مواجهة غير متكافئة مثل فخّ محكم مع الشركات والبنوك، وأن موارد حاجاتها وأولوياتها الأساسية في التعليم والصحة والاتصالات والسلع والخدمات تديرها شركات وبنوك يغلب عليها أنها أجنبية، ولم تعد السلطة سوى جهاز للقمع يمكن أن تستأجره البنوك والشركات، تعود السلطة كما بدأت جماعات من الصيادين الأقوياء والمغامرين المنفصلة في مصيرها ومشاعرها عن المدن والمجتمعات، وتعمل وتقتل وتدمر بلا قانون واضح أو مفهوم في الاجتماع والسياسة!
لا نملك في هذه المتاهة سوى أن ننخدع، نتظاهر بوجود الأعداء، نرص الصفوف لمواجهتهم، فذلك على الأقل يؤجل الكارثة أو يخفف منها، فلم تعد السياسة هي المعرفة والتمييز بين الضرر والنفع، ثم بناء سياسات ومواقف واتجاهات للحكم والمعارضة، تتجادل فيها التيارات والطبقات، لكنها مباراة أبدية لا تتوقف، تمضي الجماعات والنقابات فيها مثل نائحة مستأجرة أو عمالة سائبة.
الخطوة الأولى للخروج من اللعنة هي تحويل الصراع والجدل من كونه بين السلطة والمجتمعات إلى جدل بين تيارات واتجاهات سياسية واقتصادية، تؤيد كل اتجاه قواعد اجتماعية وطبقات وفئات ومصالح، وبغير ذلك فإننا ندمر كل ما تبقى لدينا.
الغد 2017-12-13