"ضجيج" الانتفاضة
غداة الإعلان الأميركي عن القدس كعاصمة لإسرائيل، عاد الحديث عن الانتفاضة الثالثة يتصدر واجهة المناقشات والتمنيات والاجتهادات، داخل فلسطين وخارجها، وسط ما يشبه الإجماع على أن هذا الإعلان قد شكل رافعة موضوعية، لاستعادة زمام المبادرة، وخلق داينامية جديدة، تفضي إلى رد الاعتبار للعامل الذاتي كعنصر أساسي محرك للأحداث، عبر سلسلة من الفعاليات الشعبية المدارة على نحو مركزي، ومن ثمة مراكمة مظاهر التمرد الشعبي بمختلف الاشكال، على طريق تصعيد المواجهات مع الاحتلال، وصولاً إلى الانتفاضة التي طال انتظارها.
ولعل المجابهات المتواصلة منذ نحو أسبوعين، والاحتكاكات المتفرقة في القدس وعلى الحواجز العسكرية في الضفة الغربية، ناهيك عن الشريط الشائك حول قطاع غزة، كانت عصافير النونو الأولى المبشرة بربيع الانتفاضة المنشودة التي ستبتكر، بالضرورة، ادواتها وخطابها واساليبها المغايرة لما كان عليه الحال في الانتفاضتين السابقتين الحافلتين بالدروس والعبر المستخلصة من واقع التجربة الذاتية المكتسبة، لا سيما درس تجنب اللعب في ملعب القوة العسكرية المفضلة لدى قوة احتلال متوحشة، لا تتورع عن إطلاق النار بخفة وسادية ورعونة مفرطة.
وأحسب أن المبادرة الكفاحية المبتكرة كإبداع جديد يذكّر بفرادة الحجر كأداة نضالية غير مسبوقة في الانتفاضة الاولى، قد أتت هذه المرة من ميدان المنارة في رام الله، من خلال المشهد المنقول بعد ظهر يوم السبت الماضي عبر البث التلفزيوني المباشر، وهو ما بدا لي غير مفهوم للوهلة الاولى، حين وقع نظري على صورة يحتشد فيها اكثر من 300 رجل وامرأة، يرقصون ويغنون ويهتفون معاً، دون أن يتولى مراسل او مذيع شرح ماهية الفاعلية او مغزى هذه الوقفة الجماهيرية المحدودة، وما إذا كان لها صلة ما بالحراك الاحتجاجي ضد دونالد ترامب.
كان على الفضولي الذي سره المشهد الباذخ كثيراً، بما تخلله من إغانٍ وطنية ودبكات وتعبيرات فلكلورية (كان فيها صوت النساء أعلى وأرق وأعذب) أن ينتظر حتى مساء ذلك النهار كي يعرف أن ما جرى على ميدان المنارة، كان مظهراً من مظاهر الحراك الشعبي المنظم من جانب قوى المجتمع المدني، تعبيراً عن انخراط قطاعات جديدة، في ما يبدو أنه مقدمات أولية لانتفاضة مرجوة، قطاعات لا تقدر على رمي الحجارة او إشعال الاطارات والاحتكاك مع نقاط التفتيش، لكنها ترغب في المشاركة، وأداء الواجب الوطني، وفق قدراتها الذاتية. وبحسب تقرير صحافية مختلفة، وروايات قادمين من عين المكان، اتضح أن تلك الفعالية غير العفوية قد جرى تنظيمها تحت مسمى "ضجيج" وأنها انطلقت بتنسيق مسبق، وفي وقت متزامن، مع مثيلات لها في العديد من مدن الضفة الغربية، الى جانب فعاليات مشابهة في غزة وتركيا وكندا وفرنسا والمانيا وسويسرا ولبنان والمغرب وتونس والجزائر، استخدم فيها المشاركون قرع الطبول، وأواني الطبخ المنزلية، والصافرات والعزف على الشبابة، فضلاً عن الاغاني والاناشيد، وكل ما يمكنه ان يحدث ضجيجاً يعلو على صوت دونالد ترامب، ويحتج عليه.
اذن نحن أمام اداة كفاحية مبتكرة قد تتحول الى شكل نضالي جديد، وغير مسبوق ايضاً، على نحو ما آل اليه الحجر في الانتفاضة الاولى، يتسع إطارها الى مشاركات شعبية أوسع نطاقاً هذه المرة، وإلى دخول فئات اجتماعية جديدة لساحة المقاومة المدنية، في مقدورها كسر الصمت الثقيل، وصنع الضجيج المسيّس، واعلاء الصوت المطالب بالحرية والاستقلال، واشهاد العالم على ان هناك شعباً يُنكّل به، تصادر حقوقه وتسلب اراضيه، ويفترى عليه، وها هو يرفض قرار ترامب، ويقول بملء فيه؛ كفى للصمت إزاء كل هذه العربدة الاسرائيلية.
إذا كان لمثل هذه الاداة الكفاحية ان تعم وتنتشر اكثر فأكثر، لتغدو الشكل النضالي الإبداعي المعتمد في المستقبل القريب، فإن الانتفاضة الثالثة المرتقبة، تصبح والحالة هذه أمراً قريب المنال وممكنة فعلاً، انتفاضة تمتلك صوتاً مختلفاً، وجماهير اوسع، واشكال مقاومة حضارية اكثر قابلية للفهم والتفهم من جانب المجتمع الدولي، الذي لا يتفاعل مع ما يسميه مظاهر عنف، ولا يتجاوب جيداً مع صور الإطارات المشتعلة، فيما يمكن لهذا "الضجيج" الواعي أن يتواصل دون تكلفة بشرية جسيمة وخسائر مادية فادحة، وما على العالم العربي إلا أن يتفاعل أكثر مع هذه المشاهد المثيرة للخيال.
الغد 2017-12-19