بيع فلسطين..!
من العجيب أنْ يحتاج أحد إلى تذكير بأن الولايات المتحدة ليست صديقاً للفلسطينيين –بل ولا طرفاً محايداً تجاههم. ولهذه الدولة الأنانية العدوانية تاريخ غير منقطع من مساعدة المستبدين وإحباط آمال الشعوب في كل مكان. وقد انخرطت دائماً في تدبير المؤامرات لتدمير إمكانيات الآخرين والاعتياش من الأزمات ونقاط التوتر. وإذا كان الجميع يتحدثون عن قيادة هذه الدولة للعالم، فإن العالَم البائس الذي نشاهده لا يترك مجالاً للشك في طبيعة أداء ونزوع هذا "القائد".
بعد إعلانه الاعتراف بالقدس الفلسطينية عاصمة لكيان الاحتلال، هدَّد الرئيس الأميركي أخيراً بقطع المساعدات المالية عن السلطة الفلسطينية، إذا لم تواصل "عملية السلام" التي يقودها بلده لتصفية القضية الفلسطينية وتكريس الاحتلال. وقد ردت عليه الرئاسة الفلسطينية بأن القدس "ليست للبيع".
كان ينبغي أن تعرف القيادة الفلسطينية أنها لا تتلقى الأموال الأميركية، ولا حتى الاعتراف الدبلوماسي والمكانة، مقابل شيء يساعد الشعب الفلسطيني على الحياة والصمود ونيل الحرية والحقوق. كان الأمر دائماً يتعلق بمساعدة كيان الاحتلال فقط، وهو الحليف المعلن للإدارات الأميركية والكونغرس المنحاز، وضد الشعب الفلسطيني. ووفق أي معيار، يعني تلقي أموال من أحد أنك تعمل عنده بشكل من الأشكال، وتقبض أجراً مقابل عمل لا بد أنه يخدمه بحيثُ يهددك بقطع المال عنك وإقالتك إذا خالفت إرادته وغاياته، كما أوضح ترامب بلا لبس أخيراً.
كان العمل الأساسي الذي تلقت القيادات الفلسطينية "المساعدات" من أميركا وحلفائها مقابله هو المشاركة فيما تُدعى "عملية السلام" التي أنتجتها اتفاقات أوسلو. وقد خدَم الدور الفلسطيني خلال ربع قرن منذ أوسلو بالضبط ما أراده الأميركان والكيان بطبيعة الحال، من القيادة الفلسطينية في هذه الفترة. ولذلك استحقت استمرار التمويل، مقروناً بالتهديد والانقطاعات أحياناً.
مثل أي مشروع، يُحسب الأداء والإنجاز بالنتائج. وقد وصف ناشط السلام الإسرائيلي ميتشل بليتنيك، "عملية أوسلو" وما تبعها، فكتب: "ربما يكون هيكل عملية أوسلو للسلام محكوماً بالفشل منذ البداية. كان الهدف منه دائماً هو التركيز على المحادثات الثنائية، مع تأجيل القضايا الصعبة أطول وقت ممكن. ولم يمنع أي شيء في الاتفاقات التي بنيت عليها عملية السلام توسيع المستوطنات الإسرائيلية في المناطق التي احتلتها إسرائيل في العام 1967؛ وكانت مسألة حقوق الإنسان الفلسطيني بالكاد في البال؛ و(اعتمدت) الاتفاقيات على الإرادة السياسية للإسرائيليين، الطرف الأقوى بما لا يُقاس".
إذا افترضنا أن عملية أوسلو وما تلاها بدأت بحُسن نية من مختلف الأطراف، فإن سوء النية فيها تكشف منذ وقت بعيد. وللتذكير بما لا يستوجب التذكير، نص إعلان مبادئ أوسلو على "إقامة سلطة حكم ذاتي إنتقالي فلسطينية (أصبحت تعرف فيما بعد بالسلطة الوطنية الفلسطينية)، ومجلس تشريعي منتخب للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، لفترة انتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات، للوصول إلى تسوية دائمة بناء على قراري الأمم المتحدة 242 و338، بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية. وبعد ثلاث سنوات تبدأ "مفاوضات الوضع الدائم" تجري خلالها مفاوضات بين الجانبين بهدف التوصل لتسوية دائمة. وتشمل المفاوضات وضع القدس، واللاجئين، والمستوطنات والأمن".
بمجرد أن جاء العام 1998 ولم يتم ذلك، كان ينبغي الانسحاب من عملية السلام بهذه الكيفية، لأنها فشلت بسبب سوء نية الأميركان وكيان الاحتلال. وقد عنى استمرار الفلسطينيين في اللعبة منح غطاء لتعميق الاستيطان والمصادرة والاحتلال، وتقطيع أوصال الضفة وإعدام أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة بما سُمي "الحقائق على الأرض". وإلى جانب ذلك، لم تؤسس الأموال الأميركية بنية تحتية حقيقية تخدم الفلسطينيين العاديين، بقدر ما أفسد المال الكثير من المتنفذين والمستفيدين. وقد ظل الفلسطينيون الفقراء فقراء، غير آمنين اقتصادياً ولا نفسياً ولا فيزيائياً. وكانت البنية التحتية الوحيدة التي بنتها أميركا بإخلاص هي جهاز الأمن الفلسطيني، الذي دربته ودفعت رواتبه فقط لحماية الاحتلال وقمع المقاومة، بينما تُرك الفلسطينيون مكشوفين أمام بنادق العدو ومعتقلاته وإذلاله اليومي.
إذا كانت النتائج هي اختصار فلسطين التاريخية إلى كانتونات، وتهويد معظم القدس، فإن فلسطين كلها تكون قد بيعت بشكل أو بآخر خلال فترة أوسلو، مقابل أموال الأميركان.
الغد 2018-01-07