مالك بن نبي.. أردنيّا!
أشعر بالسعادة الغامرة عندما أقرأ أو أسمع عن مبادرة اجتماعية يقوم بها فرد أو مجموعة في أيّ مجال من مجالات العمل الاجتماعي والتنموي والخيري. لذلك خصّصت مقالات سابقة عديدة (في أيّام الجمع) عن هذا الموضوع.
لماذا؟ لأنّنا ونحن نتحدث عن سياسات "الاعتماد على الذات" فإنّ ذلك – بالضرورة- لا يفترض أن يقتصر على الحكومة والجانب الرسمي، بل أيضاً المجتمعي والشبابي تحديداً، فتطوير ثقافة المجتمعات المحلية وفعاليتها هو جزء أساسي، إن لم يكن شرطاً، لعملية التنمية والتغيير المطلوب.
أحد أحلام اليقظة – التي تراودني كثيراً- أن يصحو الأردنيون في يوم قريب على رئيس وزراء معه حكومة يفجّرون رغبتهم للعمل الاجتماعي والتعاون والنمو والنهضة، يحرّكون المياه الراكدة، يؤطرون الحلم الأردني، ويدفعون الشباب للعمل في بيئاتهم المحلية لتطويرها وتجميلها وتحسينها، وللبحث عن فرص عمل ذاتية مرتبطة بهذه البيئات، فلا ينتظرون الوظيفة الحكومية أو رواتب الدرجة الرابعة التي لا تسمن ولا تغني من جوع!
هذا هو ما نقصده بكلمة التحول الجوهري في منهجية التفكير Shifting paradigm، لأنّ الاعتماد على الذات لا يمكن أن يحدث من دون تطوير الثقافة الاجتماعية في مجال المسؤولية وقيمة العمل وأهميته لدى جيل الشباب.
ما علاقة مالك بن نبي في هذا الموضوع؟!.
لأنّ هذه الأفكار هي جزء من فلسفة مالك بن نبي وكتاباته وآرائه في النهضة والتنمية والتغيير، ونظريته المشهورة في تفاعل الإنسان مع الوقت والتراب. فبن نبي من منظّري المسألة الثقافية في الفكر العربي المعاصر، ممن يؤمنون بأهمية وضرورة تغيير المجتمعات وتأسيس العمل الاجتماعي، وبترسيخ مفهوم الواجبات قبل مفهوم الحقوق، لذلك كان مبالغاً في معاداته للسياسة والسياسيين والركون إلى قصة الانتخابات بوصفها مفتاح التغيير، فعلى النقيض من ذلك فهو يرى أنّ التغيير يبدأ من النفس والمجتمع ومن العامل الثقافي.
أظن أنّه بالغ في الموقف المعادي للسياسة والانتخابات والسخرية منها، لكن ذلك لا ينفي أهمية ما كتبه بالنسبة للأجيال الشابة ولعملية التغيير والنهضة المطلوبة، وربما هذه الفكرة لم تأت من الفراغ، بل مرتبطة بصورة جوهرية بقراءة التجربة الغربية والأوروبية التي تأسست الديمقراطية فيها على قاعدة النهضة الصناعية وما أحدثته من تحولات اجتماعية وثقافية وحراك طبقي تاريخي.
هذه الفكرة – أي ارتباط الديمقراطية بالنهضة الاجتماعية- الاقتصادية- هي جوهر المسألة الثقافية، التي نادى بها قبل مالك بن نبي الإمام محمد عبده، فتحدث عن الإصلاح الديني بوصفه شرطاً للتغيير، وعن دوره في إحداث ثورة اجتماعية حقيقية مبنية على إعادة ترسيم دور الدين في المجتمع، ليكون محرّكاً للعمل الاجتماعي التنموي والعجلة الاقتصادية، وكان متأثراً بدرجة كبيرة بحركة مارتن لوثر في أوروبا.
كان المأخذ على مالك بن نبي وقبله محمد عبده، وكل روّاد المدرسة الثقافية، أنّهم أخذوا موقفاً عدائياً من السياسة، حتى وصل الأمر بالإمام إلى القول "لعن الله السياسة"، وإلى التنظير لمفهوم "المستبد المستنير" أو العادل، وهو مأخذ حقيقي وصحيح على هذه المدرسة، لكنّ هذه الفكرة – أي المستبد المستنير- ليست مطلقة لديهم، بل هو حاكم لمرحلة انتقالية فقط ليقوم بدفع المجتمع دفعاً نحو التغيير المطلوب والإصلاح والتنوير والتعليم.
في المجمل التحدّي الاقتصادي الذي تواجهه مجتمعاتنا اليوم لا يرتبط فقط بالسياسات العامة، بل بالثقافة الاجتماعية والمجتمعات والإيمان بالقدرة على التغيير والنهضة، وهذه الشروط لا يمكن أن تتم عبر الحكومات، بينما المجتمعات نائمة تنتظر الفرج من صناديق الاقتراع، هذا هو جوهر الفكرة.
الغد 2018-01-12